-->

اللشمانيا.. ندوب مستعصية على وجوه المغاربة

19 يناير 2018 - 20:01

الساعة تشير إلى السابعة صباحا، أشعة الشمس بدأت تشق طريقها وسط السماء الملبدة، لتخفف من البرودة القاسية.. نساء دوار الزركان التابع لجماعة بوزروال نواحي زاكورة، بملحافهن الأسود من مختلف الأعمار تقفن على حافة الطريق رفقة أبنائهن في انتظار وسلة نقل إلى المستوصف بحثا عن علاج من داء الليشمانيا، يتهامسن باللغة الأمازيغية، « لقد تأخر، سنجد المستوصف مكدسا ».

« هذه معاناتنا شبه اليومية، ننتظر التريبورتور الذي سيقلنا إلى مركز جماعة تنزولين.. ايوا الله يعافينا وينجيكم من هاد المرض »، تقول فاطمة ذات 47 سنة بلغتها الأمازيغية وهي تعد بيدها اليمنى الدراهم الخمسة التي ستقدمها لسائق التريبورتور نظير مسافة طريق تجاوزت 15 كلم، فيما تحاول بيدها اليسرى إخفاء ندبة على أنفها لمرض داء الليشمانيا الذي أصابها قبل شهر بقماشة بيضاء.

هنيهة فقط حتى وصلت وسيلة النقل المنشودة، وتكدست عشرات من النساء والأطفال فوق بعضهن على ظهر « التريبورتور » القادم من الدواوير المجاورة، « إنه يوم شاق وشبه يومي لنساء تتكبدن معاناة مرض تحالف مع البرد لنخر أجسادهن الهزيلة، والنيل من عزيمة أطفال في عمر الزهور.

على الطريق عربات ودراجات ثلاثية العجلات هي الأخرى تنقل راكبيها لوجهة واحدة ولغرض واحد، من دوار الحدان، زاوية الفقوس، اخلوف، بونانة، أولاد أيوب، أمردول، حيث انتشر مرض الليشمانيا كلعنة أصابت السكان، « نحن أناس بسطاء، لا دخل لنا في السياسة ولا في سدة الحكم، كل ما نطلبه من الحكومة هو طبيب ومستشفى قريب من دوارنا، وألا نضطر لقطع كل هذه الطريق الملتوية والمنعرجات بشكل يومي، ابني أصيب بهذا المرض اللعين، وهو ينخر فيه ويأكل منه، هل أجلس مكبلة اليدين وأنتظر وفاته؟ ». تقول خديجة وهي تقبل رأس ابنها أحمد البالغ سبع سنوات قبل أن تفرج شفتاها عن ابتسامة هادئة.

أزمة التطبيب والفحص

طابور طويل من الساكنة التي قدمت من مختلف دواوير المنطقة، تقف أمام مستوصف، أشبه بغرفة صغيرة منه إلى مركز صحي تابع لوزارة الصحة المغربية، فوق جدرانه المتصدعة يرفرف علم مغربي بال، وعلى جنباته بعض الأطفال ممن تعبوا الوقوف وافترشوا الأرض لإراحة أجسادهم التعبة.

كلمة مستوصف يبدو أنها تطلق مجازا على هذا المسكن المهجور الذي تحج إليها ساكنة المنطقة على اختلاف إصاباتهم ومرضهم، مركز صحي لا يفتقد فقط لأبسط التجهيزات الطبية، بل أيضا للأطر والأطباء والممرضين، فلا تكاد ترى غير ممرض خمسيني يرتدي وزرة بيضاء، تطوع لخدمة الساكنة ويرفض التحدث مع الصحافة، يستقبل المرضى ويغلق بابه في وجه الغرباء عن المنطقة تجنبا لحرج السؤال.

جميلة، (8 سنوات) طفلة سمراء، نال داء الليشمانيا من وجنتيها المكتنزتين، ترمق الحاضرين بنظرات خاطفة، وتعود للغوص في هدوئها المريب، قدمت رفقة والدتها زهراء إلى المستوصف من دوار أمردول، لأخذ حقنة أخرى لعلها توقف تمدد الندوب: « نقطع الطريق من دوارنا إلى تنزولين أربع مرات على الأقل في الأسبوع، لأخذ الحقنة، جميلة خائفة جدا ولهذا لا تريد التحدث إليكم، عادة هي نشيطة وكثيرة الحركة ولكن المرض أفقدها الرغبة »، وأضافت الأم بنبرة متأسفة: « حتى المدرسة ترفض الذهاب إليها تقول إنها أصبحت بشعة ».

وبخصوص العلاج الذي يتلقونه يقول عبد الله (35 سنة): « عن أي علاج يتحدثون في البرلمان؟ لا يوجد طبيب ولا مختص في الأمراض الجلدية، الممرض هنا شارف على التقاعد، ويساعدنا فقط بمنطلق الرحمة والإنسانية، كيضرب الحقن للناس، وكيعطيهوم الورقة باش يشريو البومادا الصفرا وصافي، أش عندو مايدير؟ راه ماشي طبيب ».

زهرة العمراني، أستاذة التعليم الابتدائي في دوار تنزولين، أكدت لـ »أخبار اليوم »، أن جميع تلامذتها في الفصل مصابون بالمرض ماعدا أربعة، ما يصعب مهمة التدريس، فتارة تكون لهم معلمة، وتارة أخرى أما ومرات عديدة ممرضة: « هذا الداء يعيق دروس التلاميذ، فحرارتهم مرتفعة طيلة الوقت، ناهيك عن ألم الجروح، والتلاميذ تأثروا نفسيا بالمرض، حتى أنهم أصبحوا يستهزئون ببعض من له ندوب أبشع من الثاني، والكثير منهم يجدون حرجا في الالتحاق بصفوفهم، خاصة من شوهت ملامحهم بسبب الداء »، تقول زهرة التي أكدت أيضا أن بعض زميلاتها أصبن بالمرض أيضا.

وتابعت المتحدثة: « لقد نظمنا احتجاجات، ونبهنا السلطات المعنية لخطورة الوضع، ولكن لا مجيب لحد الآن، حتى أنهم يستهينون بهذا الوباء، الساكنة هنا في المستشفى تحقن بالإبر بأمل العلاج، ولكن عن أي علاج نتحدث إن كان لا يوجد طبيب في المنطقة، كما لم تخضع الساكنة لأي فحوصات أو تحاليل، يعني أنت كمريض تأتي للمستوصف البسيط بعد أن ظهرت الندوب على جسمك، وتحقن بإبرة لا تعلم شيئا عن ماهيتها، دون التأكد إن كان هذا المواطن مصاب حقا بالليشمانيا أم لا، هل يأخذ المريض حقنة دون التحقق من مرضه؟ »..

خارطة المصابين

وزير التجهيز والنقل واللوجستيك والماء، ووزير الصحة بالنيابة، عبد القادر اعمارة، قال يوم الاثنين الماضي في معرض جوابه عن سؤال شفوي بمجلس النواب إن مجموع الحالات التي ثبت وبائيا أنها لداء « الليشمانيا » بلغ 3548 حالة، وإن وزارة الصحة تدخلت لمواجهة داء “الليشمانيا”، عبر عدة إجراءات، من قبيل الكشف الشامل والتكفل بالحالات المرضية على مستوى كل المناطق الموبوءة، خاصة في الوسط المدرسي وفي عدد من الدواوير، حيث قامت بفحص حوالي 128 ألفا و730 تلميذا.

من جهته، قال مندوب وزارة الصحة بزاكورة، محمد الغفيري، في تصريح لـ »أخبار اليوم »، إن عدد الحالات بالإقليم لا يتعدى 1750 شخصا إلى حدود دجنبر الماضي، وهو عدد معقول ولا يستدعي الموضوع هذه الضجة المثارة حوله: « وهو إحصاء قامت به المندوبية لجميع الدواوير في إقليم زاكورة، المرض لا ينتشر حاليا وهو غير معد، وبالتالي من ظهر عليهم المرض، أصيبوا الصيف الماضي »، يقول المندوب.

هذه الأرقام تنفيها معظم ساكنة الإقليم، التي أكدت في تصريحات مختلفة استقتها « أخبار اليوم »، أن هذا العدد ليس حقيقيا ولا هو دقيق بالمرة، فالوباء قد تفشى في جماعات الإقليم والدواوير المجاورة، ومن الساكنة من لم يشمله الإحصاء.

وفي السياق ذاته، يقول الفاعل الجمعوي في المنطقة عبد الجليل الرقيبي: « هذه الأرقام بغض النظر عن تضاربها إلا أنها أيضا مغلوطة، فنفسه هذا الإحصاء الذي قامت به المندوبية قال عنه مدير الأوبئة في المنطقة إنه غير دقيق نظرا لتخلف العديد من النساء والمصابين عن الإحصاء، لكونه يشمل فقط من قدموا إلى المستشفى لتلقي العلاج، فيما لم يشمل من لم يعلنوا عن إصابتهم بالمرض، أو من اختاروا الطب البديل للاستشفاء ».

وتابع المتحدث: « أساسا لا يمكن حصر الإحصائيات في رقم محدد، لأن هذا المرض لا يزال في مرحلة التفشي، ولا تزال الساكنة عرضة للإصابة به، الداء غير متحكم فيه في ظل غياب إرادة حقيقية واستراتيجية لمحاصرته بالرغم من كل الجهود المبذولة ».

العلاج بما تيسر !

اليأس لم يغمر بؤس ساكنة زاكورة فقط، بل أضعفها أيضا، ما قاد عشرات منهم ممن أرهقهم مشاق الطريق المادية والمعنوية، وتكالب عليهم المرض اللعين والبرد، إلى اللجوء إلى الطب البديل، بعد أن فقدوا الثقة في الإبرة و »البومادا الصفراء ».

صالح، الرجل الخمسيني ابن دوار بونانة، يروي لـ »أخبار اليوم » كيف تخلى عن أخذ الحقن ولجأ إلى مواد غريبة، وخطيرة على جسم الإنسان ولكنه مؤمن بنجاعتها في صد الداء: « من نونبر وأنا أحقن بالإبرة وأضع المرهم الذي اشتريته من المستشفى، ولكن هذا المرض مستمر في التمدد، والإبرة هي السبب، من نهار درتها تفركعو الجروح وبقا هادشي غادي بالدم، والماء والوسخ، هادشي علاش درت الدوا البلدي الشيح والنيلة والحامض والعسل »، مضيفا: « درت كاع الحوايج لي يجيوك على بالك، لي قالوا مزيانة كانديروها، حتى الشبة والحنا والزعتر، وحتى البيرا والشراب لي حرموا ربي وعمرنا شربناه، حتى هو درناه لهاد المرض لي قهرنا ».

وتقول أمينة، الأم التي أصيب أبناؤها الخمسة بدورهم قالت: « أنا مشيت درت الإبرة، وخرجات عليا، ولادي كاملين شافوني فهاد الحالة ومابغاوش يمشيو للسبيطار، هاهوما كايديرو الحنة والزعتر، وبنتي الكبيرة كاتدير السيليسيون، كنطلبوا من الله ومن السلطات يشوفو من حالنا ويصيفتو لنا طبيب ».

أمين الشاب الثلاثيني شدد في تصريح لـ »أخبار اليوم »، على أن توقف تمدد الداء كان بفضل وضعه لمادة « السيليسيون » وتنظيف الجرح بالقطران وجافيل قائلا: « أنا وقفت من الخدمة بسبب هاد الدوا ديال السبيطار، ديك الإبرة كتفركع الجرح هادشي علاش درت الزعتر، وكنصبر لحريق السيليسيون والقطران وجافيل، ولكن الحمد الله راه بخير دابا ».

أما فؤاد وهو شاب يعرف كيف تسير هذه العملية،، فقد قال إن استعانة الساكنة بالأعشاب والطب البديل ليس وليد اللحظة أو هذه السنة فقط، بل لطالما التجؤوا إلى هذه التجارب الغريبة قائلا: « الضرورة أم الاختراع، والساكنة يئست من انتظار أي تدخل عملي للسلطات للحد من انتشار الوباء، وبالتالي لم تجد حرجا من الرجوع إلى الطرق والتجارب المريرة التي قام بها السلف لمقاومة الداء وعلاج المرض »، مضيفا: « أتذكر أنه في أواخر سنوات التسعينيات من القرن الماضي، أصابت الليشمانيا والدتي وأختي ولم ينفع أي علاج سوى لجوئهما إلى منظف « الكريزي » الذي كان فرجا لنا. إنها الحقيقة المرة بعدما وجد أسلافنا أنفسهم في مواجهة الداء. والخطير في الأمر أن الناس باتوا يطلبون أن تصيبهم الليشمانيا في أماكن غير ظاهرة من الجسم. لأنها تترك تشوهات بارزة بعد الشفاء ».

من جهته، استنكر مندوب وزارة الصحة بزاكورة، محمد الغفيري، في تصريح لـ »أخبار اليوم » استخدام الساكنة لمواد خطيرة، الأمر الذي يعيق عملية الاستشفاء قائلا: « هذه المواد الخطيرة، كالسيليسيون والحناء والقطران وغيرها، لا تداوي المريض، الناس مابقاوش كايصبروا، بغاو يبراو دقة وحدة، وماكايتبعوش العلاج، راه العلاج خصو الوقت وهادشي لي خصهم يفهمو، العلاج بالدواء الطبي، يتطلب شهرا وزيادة، بأخذ الحقنة مرتين في الأسبوع واتباع التعليمات الطبية ».

الفرق في مكان سكناك !

في المركز الاستشفائي الإقليمي لزاكورة، الوضع أقل سوءا، حيث يستطيع المرء أن يقول: « على الأقل بداخل هذا البناء توجد أسرة وأطر طبية، وطبيبة اختصاصية في الأمراض الجلدية، هذا ما يليق بمغرب 2018″.

الطبيبة المختصة في الأمراض الجلدية، لا تحتاج لتحاليل لاكتشاف المرض، يكفي أن ترمق المريض بنظرة كي تقول إنها الليشمانيا، طبعا لكونها استقبلت عشرات من المصابين طيلة الفترة الممتدة ما بين شتنبر من السنة الفارطة ويناير الجاري، الأمر الذي استغرب له أحد الأطباء المختصين بالرباط في تصريح لـ »أخبار اليوم » قائلا: « طبعا قد تكون الطبيبة عاينت عشرات وحتى آلاف المرضى المصابين، فهو وباء منتشر في جنوب المغرب، غير أنه طبيا كان من المفروض أن تقوم الطبيبة بأخذ عينة من جلد المريض وتحيلها للتحليل الدقيق »، وتابع المتحدث: « وقد تكون غياب التجهيزات الطبية والوقت لا يسمحان بكل هذه الإجراءات الطبية.. هنا الطبيب يلجأ لحدسه الطبي ».

الطبيبة قدمت للمصابة وصفة طبية متكونة من أربعة أدوية ومضادات حيوية، وأوصتها بضرورة أخذ العلاج في وقته، والعودة بعد ثلاثة أيام لتتبع حالة المريضة وتشخيص الداء مرة أخرى، للتأكد من مدى نجاعة العلاج.

الغريب هو أن الوصفة التي قدمتها الطبيبة للشابة المصابة وتقدم لساكنة المدينة المصابين في المركز، ليست نفسها المقدمة للساكنة في الدواوير من طرف الممرض، ما دفعنا للاستفسار لدى طبيب مختص بالأمراض الجلدية في الرباط، وهو الذي أكد لنا أن فاعلية العلاج الذي قدمته الطبيبة هو الأفضل في قوله: « الفرق بين الوصفتين الطبيتين كبير، العلاج الذي قدمته الطبيبة هو المثالي، فالمضاد الحيوي أوريوميسين، له نفس مفعول مرهم الأوريو في وصفة المستوصف، هما فقط يعالجان الندوب الناتجة عن داء الليشمانيا، لكنهما لا يقضيان على الطفيليات المسببة للمرض، عكس المضاد غليكونتيم القوي في وصفة المركز الطبي يدمر الطفيليات ».

وأضاف المتحدث: « الوضع خطير في هذه الحالة، لأن المرهم غير كاف أبدا كعلاج، وقانونيا الممرض في المستوصف لا يملك الحق في تقديم أية وصفة صحية للمريض، لأن هذا من اختصاص الطبيب، هذا الوباء سيستمر في الانتشار إن لم يتم تعميم العلاج في كافة دواوير المنطقة وإرسال أطر طبية مختصة، لفحص المصابين ونهيهم عن استعمال مواد خطيرة قد تتسبب في تفاقم الوضع وتحوله إلى الأسوأ.. حياة المواطنين في خطر وعلى الجهات المسؤولة التحرك ».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي