عالم أزرق فعلا..

09 سبتمبر 2018 - 13:22

إذا كان أرتور رامبو قد أعطى حروف العلة (voyelles) ألوانا؛ حيث جعل: «A noir, E blanc, I rouge, U vert, O bleu »، فإن المغاربة أعطوا ألوانا لكثير من الكلمات، فالجاهل عندهم «أزرق»، والخفيف النزق الذي لا يتروى في إصدار الأحكام واتخاذ القرارات «أخضر»… وإذا كنت، شخصيا، لا أعرف لماذا ربط المغاربة الجهل بالأزرق، فإنني أشاهد كغيري كيف يتحول، يوميا، كثير من الجهلة إلى علماء في الفضاء الأزرق، يخوضون في ما يجهلون، فيحللون ويُحرمون ويهرفون بما لا يعرفون، وكل ذلك بمطلق الحرية. الأنكى مما سلف، هو أن كتلة الفايسبوك هذه أصبحت تجر خلفها نخبة «خضراء» مصابة بإسهال حاد في الجهاز النقدي، لا تتورع عن توجيه سهام نقدها إلى أعلى الجهات في هرم الدولة، لكنها تتحول إلى قطط وديعة أمام جمهور الفضاء الأزرق الذي تتعامل معه بمنطق: ما يطلبه المستمعون، فيما هذا الجمهور يتعامل فيما بينه بمنطق من سُئل عن معرفته بالعلم، فأجاب: «كنعرف نزيد فيه». وقد شاهدنا أخيرا، على هامش نقاش الكتاب المدرسي، كيف أن جمهور الفايسبوك لم يكتف بالتهكم على ما جاء في المقررات الجديدة من عبارات دارجة، بل زاد عليها بأن اختلق صورا وتعابير، وجاء بأخرى من خارج المغرب أو من مقررات قديمة، وقدمها على أنها من المقررات المدرسية الجديدة، فاشتعل الصراخ والرغاء وارتوى العُصاب الجماعي.

لقد قال عبد الله العروي، عندما سئل مرة عن سبب ابتعاده عن كثير من النقاشات الكبرى التي يعرفها المغرب، إنه ينأى بنفسه عن ذلك لأن مواقفه من كثير منها قد لا تروق الجمهور، الذي يحتاج إلى مثقف يكون متأهبا لانتقاد السياسات العامة في كل الأحوال. العروي، في خضم السجال القائم حول المقررات المدرسية، أصبح بطلا وطنيا يحتمي به جمهور الفضاء الأزرق، لمواجهة وزارة التربية الوطنية ونور الدين عيوش واللوبي الفرنسي… لكن هذا الجمهور لم ينتبه إلى أن العروي نفسه لا يمانع في استعمال الدارجة لتوصيل الفهم، خلال سنوات التدريس الأولى، على أساس الانطلاق من اللغة العربية المبسطة، والخالية من جمع المؤنث السالم والمفعول المطلق والممنوع من الصرف. وإذا نحن عدنا إلى النصوص المدرسية موضوع النقد والسخرية، فإننا لا نجدها مكتوبة بالدارجة، بقدر ما تتوسل بالدارجة، في مرات محدودة، لإبراز البعد الثقافي المغربي باعتباره جزءا لا يتجزأ من تعلم اللغة العربية، «لذلك كان لازما أن يرتبط الكتاب المدرسي بمحيط المتعلم وبيئته القريبة، وما تزخر به من رموز وعلامات وآثار ومظاهر»، يقول بيان الوزارة.

الغريب هو أن عشاق «الهوية» كانوا أول من خرج للتصدي، بالنقد والسخرية، لتضمين الكتاب المدرسي عبارات من الحقل الدلالي المغربي، من قبيل بغرير وغريبة والبريوات… مع أنهم لم يحركوا ساكنا عندما كانت نصوص الكتاب المدرسي تزخر بعبارات من لهجات شرقية، أو تضم صورا ومضامين تُشيِّئُ المرأة وتختزلها في العمل المنزلي، وهذا سبق أن سجلته واستنكرته منظمات حقوقية في تقارير مفصلة. مع أن إدماج رموز وعلامات من مكونات «الشخصية المغربية»، هو أحد المداخل المهمة لمواجهة العولمة التي تسعى إلى سحق الخصوصيات الثقافية للشعوب والإجهاز عليها. إن مشكلة عشاق «الهوية» هي أنهم لا يفرقون بين الدارجة المُمانعة لرياح العولمة، كهذه التي وُظِّفت في الكتاب المدرسي، وبين المشروع الذي يقف وراءه لوبي يكتب بالفرنسية ويدافع عن الدارجة لأغراض اقتصادية بالدرجة الأولى.

عن هذا المشروع يقول الشاعر محمد بنيس، في حوار مهم مع الصديق محمد جليد: «في سنة 2010، كلمني نور الدين عيوش في موضوع الندوة التي كان يهيئها عن الدارجة. وعندما التقينا، سألته: باسم من تتكلم؟ هل باسم الاقتصاد، أم باسم الإعلام، أم باسم السياسة؟ وعندما قال إنه لا يتكلم باسم أي من هذه المجالات.. قلت له: إنك لا تستطيع أن تفرض مثل هذا الرأي على البعثة الفرنسية، ولا على الفئة الاجتماعية التي توجه أبناءها إلى البعثة الفرنسية. كما لا تستطيع أن تفرض على الأبناك والمؤسسات الاقتصادية المالية التخلي عن الفرانكفونية وتعويضها بالدارجة في معاملاتها ووثائقها. والكلام نفسه أتوجه به إلى كتّاب فرانكفونيين يدافعون عن الدارجة، فأقول لهم: «عليكم أن تقدموا لنا المثال وتكتبوا بالدارجة، حينئذ يمكن أن نُناقش الموضوع». إن هؤلاء الكتاب يدافعون عن الدارجة بكتابة مقالات وكتب باللغة الفرنسية».

هذه هي الدارجة التي يجب التخوف والتحوط منها، ليس بالتقوقع على الذات ولعن الآخر، بل بالمثاقفة الواعية. إن «التعليم في المغرب موجه من طرف فئتين؛ فئة عربية تقليدية، وفئة فرانكفونية تفصل بين اللغة والثقافة. وهنا ضاع الخط الذي كان يجب أن يكون منهجاً للتعليم»، يضيف محمد بنيس.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي