مقاربة شبه فلسفية لحركة السترات الصفراء

06 ديسمبر 2018 - 14:22

تراجعت الحكومة الفرنسية عن قرار الزيادة في المكوس الخاصة بالمحروقات، وذلك بعد دعوة أصحاب السيارات من أجل التظاهر يوم السبت 17 نونبر مع التهديد بقطع الطرق في كل أنحاء فرنسا….. كيف يمكن فهم نجاح هذه الاحتجاجات العفوية؟

وقع أكثر من 850 ألف فرنسي ضد غلاء أسعار المحروقات، وهددوا بإغلاق الطرق يوم السبت: السترات الصفراء تنتفض وترهب الحكومة.

لما يتشبت الفرنسيون، الذي يساندون الحركة الإحتجاجية بنسبة 78٪، بسياراتهم الفردية؟ لفهم الحركة الإحتجاجية ضد الزيادة في مكوس المحروقات، يجب تملك فهم ما يربط هذه الاجراءات، أي الزيادة في المكوس، ورمزية مفهوم الحركية mobilité، والتي تعتبر ركيزة من ركائز المجتمع الفرنسي المبني على ديمقراطية الكفاءات méritocratie.

لم تعمل الثورة الفرنسية على هدم نظام الامتيازات فقط، بل رسخت مبدأ الحركية/ الانتقال الاجتماعي والجغرافي. قبل الهجوم على سجن الباستيل الشهير، عمل الثوار الفرنسيين على إحراق معابر الولوج عند مداخل المدن، كي يتمكنوا من التجول بحرية دون أداء الاتاوات. كان هذا التجول والانتقال حلما في عصر الانوار أيضا: أن تكون حرا، يعني أن تكون قادرا على التجول. بمعنى القدرة على توجيه كينونتك في الاتجاه الذي تريده دون ارتباط بأصولك.

لذا لا غرابة أن تكون مفردة سيارة بالفرنسية تعني “auto-mobile” وهي الانتقال الذاتي المتجسد في التواجد حول المقود والتوجه حيثما تشاء في تماهي تام مع مبدأ من مبادئ المجتمع الفرنسي وهو الحرية. يقول الفيلسوف الألماني Peter Sloterdijk في كتابه “التجوال اللامتناهي” : ” لقد حققت المجتمعات الحديثة أحد أهم مشاريعها اليوتوبية، وهو التجول الكلي، وهي الوضعية التي يتمكن فيها كل فرد من الانتقال بنفسه من مكان إلى آخر، خلف مقود سيارته”، ولذلك يعتبر أن السيارة هي من مقدسات الحداثة، لأن “في الحداثة لا يمكن التفكير في الذات إلا من داخل انتقالها الحر، مما يجعل من الأنا والسيارة، شيئان متماهيان بشكل ميتافيزيقي”. سيارتي هي أنا.

هذه المثل والرمزيات تم تجاهلها من طرف الحكومة الفرنسية، ثم بعد ذلك تم التخلي عنها. في الوقت الذي كان الانتقال في صلب البرنامج الانتخابي لمانويل ماكرو: كان على فرنسا أن تكون في مسيرة “France en marche” … بمعنى في سيرورة انتقال وتنقل. من أجل هذا كان يجب تشجيع الانتقال في سائر شرائح المجتمع: مرونة في سوق الشغل، اصلاح نظام المساعدات الاجتماعية كي لا يظل الفقراء رهيني لاحركيتهم الاجتماعية، كما كان يجب تضريب رؤوس الأموال النائمة في العقار، العقار غير المتحرك بذاته capital im-mobile.

لذا كان تضريب المحروقات اعلانا من ماكرو التراجع عن وعوده الانتخابية، واكتشف الفرنسيون أن شعار المسير لا يستفيد منه سوى بعض الفرنسيين وأن فرنسا ليست للجميع كما رفع ماكرو ذات شعار، وأن من أجل إيجاد وظيفة لا يكفي الانتقال من ضفة شارع إلى آخر، بل يجب السير لمسافات طويلة ولكلوميترات عديدة، وفي تناقض صارخ، أصبحت فرنسا التي عليها استعمال السيارات، لأنها في الهوامش، هي الأكثر سكونا ولا تقوى على الحركة، بشكل واقعي وبشكل رمزي، لأنها لا تستطيع الصعود في السلم الاجتماعي في مواجهة شباب حضري يركب الطائرات عند نهاية كل أسبوع. هل تراجع الحكومة الفرنسية على تضريب المحروقات كان موفقا؟ ما فهمته الحكومة الفرنسية أن المواطن الفرنسي متشبث بسيارته، لكن دون أن ننسى أن الهدف المثالي من الانتقال الذاتي الذي تستبطنه الحداثة، دون الاكثراث بالآخر الذي يقتسم معنا الفضاء العمومي، ينطوي على نزعة فردانية. بالنسبة لـ Peter Sloterdijk ولع المواطن الحر بسيارته ينطوي على خطرين داهمين، الأول هو الاكتظاظ عبر توفر سيارات كثيرة تهدد بحرمان الجميع من الحركة، وخطر التلوث البيئي الذي يهدد فضاءنا …. يمكن مقاربة حركة السترات الصفراء بالاعتماد على الاضاءات المتوفرة عبر فلسفة نيتشة، وذلك من خلال مقاربته الاحساس الحقد والدونية والاحتقار، إذ تبدو هذه الحركة، ليست كثورة ضد ضرائب فقط، بل ثورة الصغار ضد الكبار، ثورة المداخيل الصغيرة ضد المداخيل الكبيرة، ثورة الذين لا يحملون الشهادات ضد حامليها، وثورة فرنسا السفلى ضد فرنسا العليا.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي