الصديقي: النموذج الأوروبي يواجه تحديات لكنه لا يعيش خريفا

10 ديسمبر 2018 - 01:02

قال سعيد الصديقي، أستاذ العلاقات الدولية بجامعتي فاس والعين بالإمارات، إن النموذج الأوروبي يواجه تحديات لكنه لا يعيش خريفا.

في الوقت الذي قررت فيه بريطانيا الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، اندلعت احتجاجات أصحاب السترات الصفراء، في سياق يتسم بصعود اليمين المتطرف، هل نحن أمام خريف النموذج الأوروبي؟

لا شك أن الديمقراطية الليبرالية ونموذج الاندماج الأوروبي يواجهان معا تحديات كثيرة خلال السنوات الأخيرة، خاصة من لدن الحركات اليمينية التي أصبح تأثيرها ينمو باستمرار، لكنها لا تمثل تهديدا وجوديا لهذا النموذج الأوروبي، لذلك، لا أرى أن هناك خريفا لهذا النموذج.

لكن، ماذا يعني اتساع احتجاجات أصحاب «السترات الصفراء»؟ ألا يدل ذلك على ركود اقتصادي وانحباس سياسي؟

هناك عوامل كثيرة أسهمت في اندلاع هذه الاحتجاجات، لكن العامل الأكبر يعود إلى رد الفعل الشعبي على نتائج السياسات النيوليبرالية، والذي توجد بوادره في مختلف الدول الغربية، بما في ذلك أمريكا الشمالية، حيث تتوفر الشروط الموضوعية لحدوث احتجاجات اجتماعية واسعة، يمكن أن تنفجر في أي لحظة، لكنها لن تشكل تهديدا للنموذج الديمقراطي الغربي. لذلك، فالراجح أن هذه الأحداث لها أبعاد اقتصادية واجتماعية بالدرجة الأولى، حيث أصبحت مختلف الفئات الاجتماعية، لاسيما الطبقة الوسطى العريضة، تواجه صعوبات كبيرة في ضمان حياة مريحة، والوفاء بكل التزاماتها اليومية المعيشية والصحية والتعليمية والخدماتية وغيرها.

حديث ماكرون عن الحاجة إلى قوة أوروبية بديلة للناتو، في الوقت الذي تنسحب فيه بريطانيا من الاتحاد، هل يعني بداية تفكك الاتحاد الأوروبي؟

حديث الرئيس الفرنسي، بخصوص إمكانية إنشاء قوة عسكرية أوروبية بديلة عن الناتو، هو مجرد رد فعل على سياسة دونالد ترامب، الذي يرى أن الأوروبيين لا يسهمون بما يكفي في ميزانية هذه المنظمة، في حين أنهم يستفيدون من مظلة حمايتها أكثر من أمريكا، لذلك، فقد أعلن مرارا رغبته في تخفيف الثقل المالي عن أمريكا، والذي تسبب فيه إسهامها في ميزانية الناتو. ولا يمكن اعتبار تصريح ماكرون بداية تفكك الاتحاد الأوروبي أو الحلف الأطلسي. بالعكس، إن دعوة ماكرون إلى إنشاء قوة عسكرية أوروبية دليل على الحاجة إلى استمرار التحالفات الأوروبية، وعلى رأسها الاتحاد الأوروبي، الذي أعتبره مجرد تحالف بين دول. بمعنى أن انسحاب بريطانيا، والرسوم الجمركية التي يفرضها ترامب على بعض سلع حلفاء أمريكا لن تزيد الاتحاد الأوروبي إلا تماسكا، وستقوي اقتناع الدول الأوروبية بأن مصلحتها الوطنية تقتضي استمرار الاتحاد الأوروبي قويا ومتماسكا.

بالإضافة إلى ذلك، فإن السلم الذي شهدته أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية، يعود بالدرجة الأولى إلى الوجود العسكري الأمريكي في القارة الأوروبية، في إطار منظمة الحلف الأطلسي، حيث لعبت أمريكا ولاتزال دور الضامن للسلام والاستقرار، والمحافظ على توازن القوى في القارة. لذلك، فإن أي تفكك للاتحاد الأوروبي، وضعف منظمة الحلف الأطلسي، أو سحب أمريكا قواتها من القارة، سيعيد الوضع إلى مرحلة الصراع والتنافس في النفوذ بين القوى الأوروبية، وذلك سيؤدي، دون شك، إلى السباق نحو التسلح، وهذا لن يكون في مصلحة أي دولة، بما في ذلك مصالح أمريكا ذاتها. في نظري، هذا التوقع السيئ هو الذي سيدفع الدول الأوروبية إلى الحفاظ على توازن القوى القائم، وسيمنعها، بالتالي، من التفريط في الاتحاد. كما أن صعود الصين قوة دولية، واحتمال تحولها إلى قوة عسكرية لحماية مصالحها الاقتصادية خارج الصين، سيعزز أيضا من فرص استمرار الاتحاد الأوروبي والحلف الأطلسي معا. إن التحدي الأكبر الذي سيواجهه الاتحاد الأوروبي في المستقبل ليس الخلافات السياسية بين أعضائه، بل عودة المشاعر الوطنية إلى المشهد السياسي، وتأثيرها المتنامي على نتائج الانتخابات. وينبغي أن نميز في هذا السياق بين الشعبوية، التي أعتبرها ظاهرة عابرة في الزمان والمكان، وبين الوطنية التي ستكون أحد العوامل المؤثرة في السياسات الدولية خلال العقود المقبلة.

هل يمكن تفسير الأحداث المتوالية (الاحتجاجات، انسحاب بريطانيا، الخلاف مع أمريكا…) بصعود اليمين وانتصار التوجه الانعزالي؟

أصبحت مصالح الدول متداخلة إلى حد كبير، لكن هذا لا يعني أنها تتلاقى بالضرورة، بل بالعكس، مظاهر التناقض غالبة عليها، لكن طبيعة النظام الدولي الحالي يجعلها مضطرة إلى التدخل في القضايا الدولية وليس الانعزال. فبالنسبة إلى أمريكا، مثلا، فإن مصالحها الاستراتيجية في مختلف مناطق العالم، لاسيما في شرق آسيا والخليج العربي، ستمنعها من تنفيذ أي سياسية انعزالية. كما أن تحقيق أهدافها الاستراتيجية يتطلب مساعدة دول الاتحاد الأوروبي ومنظمة الحلف الأطلسي، ما يعني أن المنطق يفرض تدخلا أكثر لأمريكا وحلفائها خارج الفضاء الغربي، وليس الانعزال. وتسري هذه الخلاصة على أمريكا وعلى الاتحاد الأوروبي كذلك. ولعل أبلغ دليل على ذلك، أن ترامب وعد بتطبيق سياسة انعزالية، لكنه يجد نفسه اليوم منخرطا في مشاكل كثيرة عبر العالم.

هل يمكن تفسير كل التطورات بظاهرة «الترامبية»؟

رغم أن شخصية ترامب ستطبع الكثير من جوانب السياسة الدولية خلال ما تبقى من ولايته، فإن تأثيره لن يستمر كثيرا، فهو مجرد حالة عابرة، لأنه يسير ضد تيار النظام الدولي، ويناقض حتى المصالح الأمريكية الاستراتيجية. وما يقلل من إمكانية تأثيره أمدا طويلا أنه لا يملك رؤية للنظام الدولي، فهو يتصرف بعقلية التاجر الذي يسعى نحو الربح الكثير والسريع في الآن ذاته.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي