ابن الوليد: العروي لا يركز على التأخر التاريخي.. وإنما على التأخر النقدي -الحلقة11

20 مايو 2019 - 19:00

قال المفكر عبد الله العروي، في حوار صحافي، يعرف نفسه: «أنا روائي بالميول، وفيلسوف بالاستعداد، ومؤرخ بالضرورة». يعكس هذا التصريح موسوعية الرجل في المعرفة والكتابة. لكن قراءة أعماله الأدبية والفكرية تبرز ريادته في مجالات شتى: البحث التاريخي، والتأمل النظري، والإبداع الأدبي، والترجمة، الخ. في هذه الحوارات، نقدم هذا الفكر المتعدد، من خلال أسئلة نطرحها على كتاب ونقاد وباحثين، في محاولة لتفكيك منظوره الفكري المركب.

في نظرك، هل يمكن أن نعتبر الدراسات الثقافية بديلا عن الفكر التاريخاني الذي يراه العروي الأنسب للعالم العربي، رغم منحاه التقليداني وارتكازه على الإيديولوجيا؟

أوّلا “الدراسات الثقافية” لم تكن بديلا، وسرّ نجاحها يكمن في هذه الفكرة بالضبط. “كان من المستحيل التنبؤ بمستقبل الدراسات الثقافية قبل ثلاثين سنة أو نحوها”، كما قال الناقد الأدبي والمفكر الثقافي البريطاني رايموند ويليامز، صاحب الكتاب الأشهر “الثقافة والمجتمع” في مجال هذه الدراسات، وقبل ذلك هو أحد المؤسّسين الأساسيين لهذا الحقل الأكاديمي. وبالإمكان الاتفاق حول أن الحقول الأكاديمية ذاتها تظهر وتختفي حتى كموضة، لكن لطبيعة علاقاتها مع مجتمعاتها. ومن هذه الناحية تفهم الثقافة، في بيئة الدراسات الثقافية، وعلى وجه التحديد من حيث هي طريقة الحياة في المجتمع الحديث. ومن ثمّ تلخيص دارسين للثّقافة في تصوّر رايموند ويليامز باعتبارها “تقليدا فكريا” لا ينفصل عن المجتمع، ولا يتطابق معه في الوقت ذاته؛ الأمر الذي يعفي من الركون لنظرية المناقلة أو الانعكاس.

في السياق العربي أو عند عبد لله العروي تحديدا، فالفكر “مسؤولية وليس موضة تتغيّر سنويا”. وعبد لله العروي ناصر، من موقع التحليل الصارم والبحث المعمق، الفكر التاريخي. بل رفع كما يقول “راية التاريخانية في وقت لم يعد أحد يقبل إضافة اسمه إلى هذه المدرسة الفكرية لكثرة ما فُنـِّدت وسفهت”.

وحتى المنهج التاريخي عنده يمضي إلى الواقع الاجتماعي أو تاريخ المجتمع أو تاريخ الثقافة من منظور يكشف عن “المنطق ونسق المفاهيم”، وفي إطار مركزية النقد بدليل أنه “لا يوجد فكر حديث وبجانبه نقد، بل الفكر الحديث كله نقد”، كما يقول. فالوصول إلى “حكم هادف” (كما يسميه) يمرّ عبر هذه الخطوات.

وحتى على صعيد الأسئلة التي يطرحها العروي لا يعتقد أنها “جوهر المشكل العربي” أو أن الجواب عنها سيغيّر الأوضاع. فهو لا يركز على “التأخّر التاريخي” فقط، بل يركّز على “التأخر النقدي” أيضا. وفي ظل مثل هذه الأفكار الصارمة، لا يمكن للثقافة بمعناها المبلور في الدراسات الثقافية، ومن حيث التباسها بأشكال التعليم والتثقيف والتصنيع والاستهلاك والترويج… أن يكون لها حضور في نسق عبد لله العروي.

دعنا نزيل الالتباس الذي يلف العلاقة بين التاريخ والثقافة في فكر العروي. أيهما يكتسي أهمية أكبر: التاريخ أم الثقافة؟ وإلى أي حد يخدم أحدهما الآخر؟ ألا ترى أنه يحتقر دور الأنثروبولوجيا في فهم الثقافة العربية الإسلامية؟

الالتباس أو الغموض قائم في مجموع منجز عبد لله العروي، وقد صدّر كتابنا بقولة له تشير إلى كيف أن كل شيء يتحوّل عدا هذا الغموض. وكما أن هذا الغموض، أو فك هذا الغموض، هو ما جعله ينزل لأرض الرواية كعقدة وأفكار أيضا وليس كشكل فقط. وهذا ما لم يتقبّله بعض النقاد المشارقة؛ بل ذهب بعضهم إلى أن رأى في عبد لله العروي “روائيّا من الدرجة الثانية”. وربما كان لنقده غير المسبوق لنجيب محفوظ من ناحية الشكل ذاته تأثيره في هذا السياق، فيما رأى البعض الآخر فيه “شماتة” في مصر. والظاهر أن غموض عبد لله العروي تكويني ومنتج ونسقي أي مرتبط بنسق تفكير صاحبه.

وأما بخصوص أيهما يكتسب أهمية أكبر، فبالإمكان هنا أن أحيلك على عنوان كتاب عبد لله العروي: “ثقافتنا في ضوء التاريخ”، وبذلك تكون الثقافة مؤطرة ضمن التاريخ؛ لكن هذا لا يحل المشكل في نظري. ذلك أن التاريخ هنا يظهر وكأنه مصبّ، والحال وبلغة عبد لله العروي “كل مشكل تاريخي يتجدد طرحه بتجدد التاريخ نفسه” و”العجين التاريخي ليس لينا جدا” و”التاريخ موجود لأن لا شيء فيه متوقع”. فالتاريخ هنا مستويات، كما أن الثقافة بدورها مستويات. وهو ما يسمح بالحديث عن إمكان التداخل والتشابك بينهما من خارج أي ضرب من “الغطرسة المتبادلة” بينهما.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي