الدولة المرهونة

12 يوليو 2019 - 13:35

عقب الربيع العربي، ظهر عدد هائل من الدراسات التي تربط بين اندلاع الحركات الاحتجاجية وبين الطبيعية التوزيعية للدولة، والفجوة الموجودة بين منسوب الطلب الاجتماعي، وقدرة الدولة على الجواب عن هذا العرض.

لكن المثير في بعض هذه الدراسات، أنها حاولت أن تدرس، في سياق مقارن، الفروق الدقيقة بين قدرة كل دولة على التوزيع، وبين قوة الحراك الاحتجاجي، فتوقفت بعضها على ضيق دائرة المستفيدين في تونس (عائلة بنعلي أو عائلة زوجته)، وتوسعها النسبي في مصر، كما توقف بعضها الآخر عند القدرة التوزيعية للدولة في المغرب، وسعة النخب المستفيدة من ريعها، وكيف تصبح الانتخابات في بعدها الجماعي والتشريعي إحدى أهم الآليات في تأمين هذه السعة والحفاظ على التوازنات الاجتماعية.

ملخص الفكرة السلطوية التي دامت سنوات قبل الربيع العربي، أنه بدلا من تعبئة القدرة التوزيعية للدولة للجواب عن الطلب الاجتماعي، يمكن توسيع النخب المستفيدة، حتى تغطي على هذه الفجوة، وتكون وظيفتها الوساطية، هي القدرة على إقناع الجمهور بأن الطلب الاجتماعي معقول ومشروع، وأن إمكانات الدولة محدودة، وأن الإرادة الإصلاحية للدولة موجودة، وأنه لا يمكن تحقيق كل ما هو مطلوب، وأن مؤشر المصداقية لدى الدولة، هو شروعها في الوفاء ببعض المتطلبات الاجتماعية التي تدخل في مكنتها ولا تؤثر على التوازنات المالية الكبرى.

لم تستطع هذه الفكرة الصمود طويلا، لأن سندها الأساسي، الذي هو استقرار الطبقة الوسطى، انهار وتهاوى، وأصبحت هذه الطبقة التي كانت تقوم بوظيفية داعمة لنخب الوساطة، تقوم بدور معاكس، أي تنسف شرعية الفكرة السلطوية، وتؤسس لفكرة جديدة، هي أن المشكل ليس في عدم وجود إمكانات للدولة، بقدر ما يكمن في وجود نخب ترهن الدولة،  وأنه لا يمكن للطبقات الاجتماعية التي تهاوت أن تبقى تحت رحمة الفتات الذي يبقى من حاصل عملية رهن الدولة من قبل هذه النخب.

في النموذج المغربي، لاحظنا طيلة السنوات التي أعقبت حراك الحسيمة،  أن اللوم توجه بشكل أساسي في البداية إلى النخب وضعف منظومة الوساطة، لأن الهم كان منصرفا إلى تحصين الفكرة السلطوية التقليدية، لكنه في وقت لاحق، حصلت مراجعة  جوهرية، لجهة القبول بمختلف الإصلاحات الاجتماعية التي طرحتها حكومة بنكيران، وكانت تمانع ضدها عدد من النخب، من ذلك توسيع التغطية الاجتماعية، وإقرار السجل الاجتماعي، وإعادة هيكلة البرامج الاجتماعية وإضفاء فعالية أكبر على بعض البرامج المحدودة الأثر، وغيرها من الأفكار الاجتماعية الهامة.

هل يتعلق الأمر بقطيعة مع الفكرة السلطوية التقليدية، وإعادة النظر في الوظيفة التوزيعية للدولة؟

يصعب الجواب عن هذا السؤال، فالطبيعة الريعية للدولة لاتزال مستمرة، بل آخذة في التوسع بعد لحظة التردد التي عرفتها مع حكومة بنكيران، كما أن طرق النخب المتنفذة في رهن الدولة تجددت بشكل كبير، وتوسع مجالها،  فقد تم اليوم إحداث قطاعات شريكة غير ربحية ! تستثمر في الصحة والتعليم، وصارت هذه الشراكة وهذه السمة غير الربحية، تمكنها من الخروج إلى الملاذات الآمنة من الضريبة، مع تحقيق أعلى منسوب من الربح، ومحاولة التغطية عليه بفكرة عدم توزيع الأرباح على المساهمين، وتوجيه ذلك للاستثمار في القطاعات المذكورة!!

وقع إذن، تحول مهم في الأسلوب، من رهن الدولة بآلية الإعفاءات الضريبية، إلى رهنها بأفكار جديدة مثل الشراكة والقطاع غير الربحي،   وفي المحصلة، تستفيد النخب من عائدات كبيرة، وتنجو من مقصلة الضرائب، وتعرض ميزانية الدولة لنقص كبير، يحرمها من القدرة على الوفاء بالتزاماتها الاجتماعية.

صحيح أن الملك توجه شخصيا وفي خطاب رسمي، لإقرار كل الإصلاحات الاجتماعية التي أعلنت عنها سابقا حكومة بنكيران، وهو يؤكد بأن عقل الدولة الاستراتيجي يتجه لمراجعة الفكرة السلطوية التقليدية، ويرى أنها استنفذت أغراضها. دليل ذلك أن جرأة الملك في إصدار تعليمات بإقرار كل هذه الإصلاحات، جاء مرفوقا بطلب إعادة النظر في النموذج التنموي. لكن، ثمة دائما التفافا على أي إرادة إصلاحية، فالنخب التي كانت ترهن الدولة، وتستفيد من إضعاف قدرتها التوزيعية، جددت وسائلها، وهي تدرك أن قدرة الطبقات الوسطى على نسف الفكرة السلطوية التقليدية، أكبر من قدرتها على تأمين سطوتها على الدولة، ولذلك، فهي دائمة التفكير في أساليب جديدة لرهن الدولة، والإبقاء على المعادلات التقليدية حتى ولو كان ذلك ضدا على إرادة الملك والحكومة.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي