لعبة إسقاط الأقنعة.. مدخل إلى مشروع الرواية السياسية -الحلقة26

10 أغسطس 2019 - 00:01

ماذا يجب على كتاب الرواية السياسية أن يفعلوه كي يصبحوا أكثر إثارة للاهتمام؟ هذا الفن ليس سهلا، فهو يحمل رسالته في ذاته. رسالة ممتعة بقدر ما هي خطرة. في هذه السلسلة، يحاول الكاتب أن يؤسس لتصور حول مشروع للطريقة التي ينبغي أن تكون عليها الرواية السياسية.

شهد العالم العربي ابتداء من 2011 ثورات عربية أطاحت بالقيادات السياسية لبعض البلدان العربية، بناء على الاحتجاجات القوية للشعوب العربية ومرّت هذه الثورات في جو مشحون بالعنف والقلق، وكان الشغل الشاغل لأفراد الشعوب العربية المناداة بالإطاحة الفورية بالقيادات السياسية التي عمّرت طويلا، وتنحيها عن تدبير وإدارة أمور السلطة، وكان الشعار الغالب في التظاهرات والاحتجاجات الشعبية هو “ارحل”. لأن هذه الشعوب عاشت ردحا من الزمن تحت الضغوط السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، وتعاني من غياب الديمقراطية والحريات العامة ناهيك عن حاجتها لأبسط شروط الحياة الكريمة في ظل اجتياح موجة الغلاء، وتدني الأجور. فقد تمت ثورات الربيع العربي في تونس، ومصر، وليبيا، وسوريا، واليمن في البداية، ثم جاءت ثورة وثورة الشعب السوداني متأخرة نسبيا لتحدث هذا العام (ابتداء من شهر دجنبر 2018)، وثورة الشعب الجزائري (فبراير 2019). الأكيد أن هذه الثورات المفاجئة أحيانا لم تأت من فراغ، ولكنها جاءت كنتاج لفشل السياسيات الحكومية لتدبير الشأن العام، بالإضافة إلى إحساس الشعوب العربية جماعات، وأفراد بالغبن والقهر (الحكرة)، وارتفاع نسبة الفوارق الاجتماعية، في ظل هيمنة السياسات الليبرالية المتوحشة، وسيادة الروح الجماعية للإحساس بالظلم وتفشي ويلات سياسات التفقير.

وهناك من المحللين السياسيين من يرى في هذه الثورات نتيجة من نتائج العولمة، فالسياسات المتبعة من قبل صندوق النقد الدولي إزاء المجتمعات العربية أفرزت أنظمة اقتصادية عربية مشوهة، تجمع بين النظام الرأسمالي والنظام الاشتراكي. كما أن خطط التقويم الهيكلي لم تجلب النمو، بقدر ما جلبت الأزمات بمختلف أشكالها. وأدى التقشف إلى خنق النمو، وميلاد الأزمات الاجتماعية. وبالرغم من أن شعارات الربيع العربي لم تكن ضد العولمة بشكل مباشر، إلا أنها كانت ضد الحكومات المنصاعة للسياسات الدولية، دون اعتبار لمطالب الشعوب، والقدرة على التخفيف من حدة وأثار التقشف. فمتى ما كانت خطط التقشف مغالية في القساوة، برز الفقر، وارتفعت حدة الاحتجاجات والفوضى السياسية والاجتماعية. وهذه القاعدة تنطبق بشكل واضح وجلي على ثورات الربيع العربي.

لقد شكلت هذه الأحداث المفاجئة مادة دسمة وغنية للمفكرين والمحللين السياسيّين سواء داخل العالم العربي أو خارجه، كما شكلت موضوعا التقطه الكثير من الأدباء لحكي روايات عن الربيع العربي في قطر من أقطاره.

ونقرأ في الكتاب المتميز للمفكر الفرنسي فردريك انكلFrédéric Encel تحليلا جيوسياسي للأسباب التي دفعت الشعوب للاحتجاج في الشوارع، والساحات العامة، كما أنه يرصد واقع المنطقة العربية سبع سنوات بعد الانتفاضات من خلال إجابته عن أسئلة بسيطة عرج فيها على سبيل المثال للحديث عن قدرة النظام السوري على الصمود، وعن العلاقة المتوترة بين مصر وقطر… ليخلص إلى نتيجة مفادها أن العالم العربي يعاني الآن من التشردم والتمزق السياسي، كما أن المنطقة بكاملها دخلت مرحلة الهشاشة السياسية بسبب الارتباط القوي لقادتها بالمنتظم الدولي، سواء للحماية أو لعب دور الوساطة السياسية بين أطرافه.

وسعى المفكر المقتدر برهان غليون في كتاب “المحنة العربية الدولة ضد الأمة” لفهم وترتيب الأسباب، والأحداث التاريخية التي حوّلت الدولة العربية الحديثة من أداة للتحرر، ومن كونها أمل الشعوب العربية بعد عقود من الاستعمار، إلى غول ابتلع الحداثة والمجتمع، وأخضعهما لمصالح خاصة غير إنسانية، وأدى في النهاية إلى تفجير المجتمعات وتشظيها وتشتيتها. فقد قمعت هذه الدول العربية الأصوات المعارضة أو المُصلحة، وامتلأت السجون بأصحاب الرأي المخالف، تلك الأصوات التي كانت تسعى لحرية التعبير والمساواة بين فئات المجتمع المختلفة.

وفي هذا الصدد كتب المفكر العربي السيد ولد باه كتابا محبوكا بشكل رائع عن الثروات العربية عنوانه “الثورات العربية الجديدة المسار والمصير يوميات من مشهد متواصل”، ونقرأ في الصفحة الرابعة للكتاب النص التالي:

“إن رهان الحركات الاحتجاجية هو إنتاج صيغ عيش جديدة أو الخروج من منطق القمع والوصاية، وتأكيد الحرية الفردية والفاعلية الإنسانية في مجتمعات متكلسة، تضيق فيها فرص الاندماج الجماعي والإبداع الفردي والتداول على السلطة. وتدخل المطالب السياسية نفسها في هذا المنطق باعتبار كونها تتجاوز التسيير الديمقراطي للحقل السياسي. ومن هنا ندرك إن هذه الثورات السياسية العصية على الاستيعاب الإيديولوجي، تنضح بالمثل الليبرالية الحالمة، وتجسد حالة الانفصام العميق بين الطبقة السياسية والأجيال الصاعدة في العالم العربي.

وليست الأدوات الاحتجاجية الجديدة إلا التعبير الواضح عن هذه السمات المذكورة. لا فرق هنا بين منطق الانتحار بالاحتراق أو بالانتشاء الاحتفالي في الميادين العامة والساحات، فكلاهما استخدام ناجع لسلاح الجسد في فظاعته التعبيرية المؤلمة (الاحتراق) ومتعته الاحتفالية (الغناء الشعاراتي). والجسد هنا محمل بقدرات ائتلافية ترابطية، لا تحتاج لخطابة السياسيين والدعاة والحكماء…”

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي