سياسة قاحلة

30 أغسطس 2019 - 14:11

السياسة لا تنتعش بدون أفكار، ولا تتنفس بدون ديناميات، ولا تنتج الحركية بدون فاعلين. أستقرئ مسار العقدينالماضيين من الممارسة السياسية، لأرى الأفكار التي ظهرت في نسق السياسية، فأجد أغلبها جاء من الدولة وبعضهاالآخر من قوى وطنية إصلاحية.

مع العهد الجديد، طرحت الدولة خارطة أفكارها، فبدأت بتجربة الإنصاف والمصالحة لطي جروح الماضي، وجمعت  النخب المقربة إليها، ووضعت تصورا لـ»المغرب الممكن» سمته بـ»تقرير الخمسينية»، وانطلقت برؤية اقتصادية،تتأسس على إطلاق الأوراش الكبرى لتحريك عجلة النمو الاقتصادي، ثم اضطرت أن تواجه إكراهات أزمة اقتصاديةمالية عالمية فرضها المحيط الدولي، فرفضت في البدء الاعتراف بتداعياتها، ثم اضطرت لذلك، فأخرجت فكرة تعديلالنموذج التنموي بمحاولة الجواب عن عطب ارتهانه لعوامل الطبيعة، وتقلبات أسعار النفط، ووضعية الشركاءالاقتصادية، فجاء المخطط الأخضر ثم الأزرق، فالتوجه نحو الطاقات المتجددة ثم مخطط التسريع الصناعي،وألحقت بهذه الأفكار فكرة جديدة واعدة تنحو منحى البحث عن عمق استراتيجي  لفك العزلة والتمدد الاستراتيجي.

بركات المخطط الأخضر كانت مغشوشة، وأرقام المخطط الأزرق كانت خادعة، والتوجه نحو إفريقيا  بهت الحديث عنه  في السنة الأخيرة. الفكرة الجديدة التي جاءت بها الدولة، هي الإعلان عن فشل النموذج التنموي، وضرورة بلورةنموذج تنموي جديد، يجيب عن سؤال: «لماذا لا تصل عائدات النمو إلى الفئات الاجتماعية الهشة؟»

الأحزاب السياسية، لم تطرح على طاولتها أفكارا كثيرة. «البام» استنسخ نفس أفكار الأحزاب الإدارية التي كانتالدولة تنشئها بغرض الفوز بالانتخابات: (تمثيل الأغلبية الغائبة، العرض السياسي الجديد، خلخلة المشهد الحزبي،خلق توازن سياسي..)، لكن في المحصلة، لم يكن المشروع في حقيقته أكثر من إعادة تدوير للأعيان، ومحاولةتجميعهم في مشروع سلطوي جديد.

الاتحاد الاشتراكي، انشغل عقله السياسي في البدء بسؤال الانزياح عن المنهجية الديمقراطية، ثم ما لبث أن وضعكل بيضه في سلة سؤال القيادة، فضل الطريق، حين تحولت بوصلته لمحاولات الهيمنة على التنظيم وكسب معركةالقيادة، وهي المعركة التي آلت في النهاية إلى قيادة لا تمتلك فكرة خارج ذاتها ومصالحها الذاتية. «الاستقلال»،الذي كان، دائما، معنيا بسؤال تقوية ماكينته الانتخابية، عاش تقريبا السيناريو نفسه، فانشغل بالصراع التنظيمي،حتى انتهى به الأمر إلى فرز حاد، أضعف قوته على طرح أفكار جديدة، فعاش مرحلة عباس الفاسي مرحلة  غموضالبوصلة، وعاش مرحلة شباط مرحلة التيه السياسي، وانتهى اليوم، إلى ما يشبه الجمود.

الأحزاب الإدارية، كما دائما، لا فكرة لديها سوى الدفاع عن المشاريع والتوجيهات الملكية، لا تعرف الأفكار طريقاإليها،  لأنها تخشى من صناعة الأفكار أن تكون مفضية إلى انزعاج المحيط.

«التقدم والاشتراكية»، إلى جانب «العدالة والتنمية»، مثلا حالة استثناء، لاسيما بعد أحداث الربيع العربي، إذ لزماطريق الدمقرطة والإصلاح، ولم يعرف عن «التقدم والاشتراكية»، إلى الآن أي تذبذب في الموقف في هذا الاتجاه،وساعده استهدافه طيلة هذه السنوات للبقاء في موقعه المستند إلى فكرة الدمقرطة والإصلاح.

«العدالة والتنمية»، بدأ مع العهد الجديد منشغلا بهم الذات، واضعا بوصلته في اتجاه الانسياب الطبيعي فيمؤسسات الدولة، فساعدته انتخابات 2002، ومانعته أحداث 16 ماي،  وأنتج رؤيته وخطابه الإصلاحيين بعدانتخابات 2007، مرتكزا على فكرة النضال الديمقراطي، ثم انبثقت من رحم هذه الفكرة مواجهة «الوافد الجديد»،واستثمر الحدث السياسي للربيع العربي ليؤكد أطروحته، ويضغط لتصبح فكرته واقعا السياسة وخطة نجاة للدولة،ثم دعته تحولات ما بعد انتخابات 25 نونبر، إلى إنتاج مفهوم «الشراكة»  كشرط للاستمرار في البناء الديمقراطي. لكن  بعد إعفاء بنكيران، ورغم انطلاق فعاليات الحوار الداخلي، لم يطرح  العدالة والتنمية أي فكرة جديدة، بلاستدعى المفهوم نفسه، أي الشراكة والبناء الديمقراطي، حتى وهو يتعرض لأقسى عملية تفكيك للشروط الموضوعيةوالذاتية التي أنتجها خلال النضال الديمقراطي، بل تحول مع الزمن إلى حزب فاقد للأفكار، لا يتميز كثيرا عنالأحزاب الإدارية في تعاطيها مع أفكار السياسة.

في المحصلة، لم تعد في مسرح السياسة أفكار، وحتى ما تطرحه الدولة من عناوين في النموذج التنموي، لا تطرحبشأنه أي لوازم تخص قواعده وضماناته السياسية، بل أصبح النموذج التنموي المفترض سببا في تغيير المعادلةالحكومية. لقد تحدثت الدولة عن كل العناوين الخاصة بهذا النموذج، بما في ذلك الشروط الإدارية وفك الارتهانبالمركز، إلا شروط السياسة، فلا أفكار بشأنها ولا رجع صدى من طرف الأحزاب.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي