مصطفى السحيمي يكتب- إلياس العمري.. سقوط "مغامر"

10 أكتوبر 2019 - 22:01

إنه يعرف من أين أتى؛ من المغرب العميق؛ مغرب « الدركات السفلى »؛ ومَعينه لا ينضب في الحديث عن هذه الفترة من حياته؛ بما يُذكر بـ »كوزيت » مع عائلة « الكافيرنيي » في رواية « فيكتو هيغو » البؤساء. وفي هذا فهو يبدو كناجٍ من الأهوال يحكي ذكرياته عن أزمنة الإقصاء، وحتى القمع.  لماذا؟ كان يرى أن كل ما هو مؤسسي لم يكن يحظى بكثير شرعية. وهو كريفيّ خالص يجد في تاريخ  المنطقة؛ خصوصا في سنوات العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، وفي حقبة محمد بنعبد الكريم الخطابي ميراثا تذكاريا لا يمكن إلا أن يغذي من صفاته النضالية.

يجب القول إن مسار إلياس العمري  خلال العقدين الأخيرين للعهد الجديد لم يكن له مثيل؛ إنه لا يشبه أي مسار آخر. فطيلة سنوات سهر لَبِنَةً بعد لَبِنَةٍ من أجل إقامة نوع من البناء يحسم مع كل ما كان يمكن أن يوجد في الفضاء الوطني. فالرجل يتوفر من المميزات على ما مكنه من الارتقاء إلى الصفوف الأولى. إنه يعرف من أين أتى؛ من المغرب العميق؛ مغرب « الدركات السفلى »؛ ومَعينه لا ينضب في الحديث عن هذه الفترة من حياته؛ بما يُذكر بـ »كوزيت » مع عائلة « الكافيرنيي » في رواية « فيكتو هيغو » البؤساء. وفي هذا فهو يبدو كناجٍ من الأهوال يحكي ذكرياته عن أزمنة الإقصاء، وحتى القمع. لماذا؟ كان يرى أن كل ما هو مؤسسي لم يكن يحظى بكثير شرعية. وهو كريفي خالص يجد في تاريخ  المنطقة؛ خصوصا في سنوات العشرينيات والثلاثينيات من القرن المنصرم، وفي حقبة محمد بنعبد الكريم الخطابي ميراثا تذكاريا لا يمكن إلا أن يغذي من صفاته النضالية.

مرور من اليسار الراديكالي

بعد مروره من فترة في صفوف اليسار الراديكالي، تعبأ مع العهد الجديد وسط نوافذ الفرص المتاحة مع سياسة الانفتاح. بوجوده وسط عالم اليساريين السابقين؛ انخرط بالكامل داخل زخم التضامن الذي تَلَا زلزال الحسيمة سنة 2004. وهكذا تحت غطاء جمعية محلية ها هو يتسلل إلى داخل دائرة صغيرة من دوائر البلاط. وجد له مكانا بالاستفادة من المصالحة التي أطلقها محمد السادس في سياق اهتمامه بطي صفحة متوترة من تاريخ الريف وممارسته بثبات وحزم سياسة اليد الممدودة.

لم يكتفِ إلياس العمري بهذا الحد فقط؛ بل إنه قد مدد هذه الوضعية إلى تقديم نفسه؛ ولو بإعلان ذلك من ذات نفسه فقط؛ غير أنه  يقدم نفسه على أنه الممثل « الشرعي » لساكنة الريف، وخصوصا، كذلك، على أنه يوجد على رأس مجموعة ضغط من « كبار الشخصيات ». وعلى هذا الأساس؛ فقد أخذ يتباهى دون أن يصرح بذلك؛ ولكن مع إظهاره؛ بأنه الضامن الحتمي الذي لا محيد عنه للتهدئة والاستقرار في المنطقة؛ إنها ازدواجية وظيفية؛ إذا صح القول؛ في اتجاهين: في اتجاه الساكنة وأعيانها، وفي اتجاه السلطة. إنه باختصار نوع من عملية « رابح- رابح » بالنسبة إلى الطرفين.

البحث عن وزن أكبر

هل كان ليكتفي بهذا الحد؟ حتما لا. لقد كان بالفعل في حاجة إلى أن يكتسب وزنا أكبر وأن يصوغ لنفسه دورا خاصا في الحقل السياسي الوطني. ولكن؛ كيف؟ بخلق على مدى بضعة أشهر الحركة العابرة في الزمن « حركة لكل الديمقراطيين » في شهر فبراير من سنة 2008؛ قبل أن يعقد العزم على أن يخطو خطوة كبرى: إنها حزب الأصالة والمعاصرة في شهر غشت 2008، ومؤتمره التأسيس في بداية 2009. لقد انطلقت إذن، الآلة التي يشغِّلها.

فاز هذا الحزب بعد تأسيسه بأربعة أشهر، بانتخابات يونيو 2009، وبـ 21% من الأصوات ومن المقاعد. إنه ليس في الحقيقة تنظيم حزبي عادي؛ إنه يحفز المترددين، ويغوي الأعيان، يهدف إلى أن يكون في قلب المنظومة الحزبية ككل. منهجية كادت تُؤتي أكلها، وكاد يجني ثمارها لو لا أن أحبطها، بل وأقصاها حَراك الربيع العربي في سنة 2011. لقد استهان بالتطلع إلى التغيير الذي عبرت عنه هذه التعبئة الاجتماعية غير المتوقَّعة. ولكن؛ كما لو أنه يحاول تفادي هذه الظرفية التي يصعب التحكم فيها، فإنه عمد إلى مواجهتها بالتوقيع في أكتوبر 2011؛ أي سبعة أسابيع قبل الاقتراع الحاسم ليوم 25 نونبر؛ على تحالف سُميّ بـ »الاتحاد من أجل الديمقراطية »؛ مع كل من التجمع الوطني للأحرار، والحركة الشعبية، والاتحاد الدستوري، وهو التحالف الذي تم توسيعه بضم أربعة أحزاب صغيرة أخرى من الطيف السياسي الذي يذهب من الحزب الاشتراكي لعبدالمجيد بوزوبع إلى حزب النهضة والفضيلة لمحمد الخليدي (القيادي السابق في حزب العدالة والتنمية)؛ ولكن المحاولة كانت فاشلة: فصناديق الاقتراع أعطت الغلبة بكل قسوة لحزب العدالة والتنمية؛ الذي قفز إلى المرتبة الأولى.

لم يكن هذا ليثبط إلياس العمري. إذ قرر أن يستعد للمعركة من جديد في الانتخابات المقبلة؛ ليوم 7 أكتوبر 2016. وفي هذه، أيضا، لم يستجب له الناخبون؛ بل إنهم أصروا على التصويت بقوة أكبر لصالح حزب العدالة والتنمية بقيادة عبدالإلـه بنكيران. وعلى الرغم من كون حزب الأصالة والمعاصرة قد تمكن من مضاعفة عدد نوابه في البرلمان برفعه من 47 إلى 102 نائب؛ فإنه لم ينجح في أهدافه ولا في طموحه. وذلك على الرغم من أنه في قيادته للاستعداد لهذا الاستحقاق الحاسم قد استعمل جميع الوسائل للفوز. فقد تم تسخير المال بوجوه استثنائية، وحتى الأجهزة الأمنية قد تم تشغيلها لتثبيط مترشحين وردعهم، وحث آخرين على الترشح أو دفعهم إلى الترحال. فقد اعترف كل من التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية بكونهما قد انتُزع منهما ما يقدر بعشرين من مترشحيهما المرجح نجاحهم.

« انقلاب » داخل الأحرار

إن إلياس العمري هو الذي تدخل بقوة لإحداث الانقلاب داخل التجمع الوطني للأحرار لطرد الأمين العام لهذا الحزب مصطفى المنصوري من رئاسة الحزب سنة 2010. فهو لم يكن ليقبل، كذلك، بأن يكون هناك ممثلا معتبرا للريف غيره. فمصطفى المنصوري، المولود في الناظور، ورئيس مجلس المستشارين كان يمثل بالنسبة إليه منافسا قادرا على تجاوزه في هذه التمثيلية. وحتى في داخل الأصالة والمعاصرة؛ فقد أحكم إغلاق الهيئات، والتدبير المالي، والتحكم في تزكية المترشحين للانتخابات المحلية والجهوية والوطنية. إنها زعامة تم بناؤها بقوة وعنف؛ مما أدى إلى ظاهرة الزبونية والتزلف. فقد تحول « السي إلياس » إلى رجل- مؤسسة بلغة العلوم السياسية.

ومن جهة هذه الدائرة أو تلك؛ كان إلياس يبدو محل تعاطف غير معروف مصدره. كان يشن حربه على حزب العدالة والتنمية؛ وفي هذا الميدان كان يتم مده بكل شيء؛ كان باختصار محط تدبير وتوجيه، والحصيلة لا يمكن اعتبارها سلبية؛ فـ »حركيته » كانت تتجاوز بكل براعة مجرد مجاله الحزبي؛ فقد تمدد وتميز في قطاعات أخرى؛ إذ كان يستقدم – بكل نجاح وتوفق- « كفاءات ». في الحركية الكبرى للـ 72 سفيرا في فبراير 2016؛ أبانت معلومات أنه تمكن من تعيين ما لا يقل عن عشرة أسماء؛ من السهل التعرف على بروفايلاتهم؛ إنهم ينتمون إلى جمعيات معروفة وإلى مسارات يسارية سابقة. وكذلك في قطاع الداخلية وغيره؛ يعلم الجميع مدى ما كانت عليه تدخلاته؛ فقد كان ينفرد بنفوذ على وزراء يهابون « المواجهة »؛ سواء بسبب ضعفهم، أو بسبب وصوليتهم.

حتى هذا لم يكفه؛ فقد حشد، كذلك، كل جهوده لتحصين نفسه بوضع مؤسساتي؛ وذلك برئاسته لمجلس جهة طنجة- تطوان- الحسيمة. ولتحقيق هذا الهدف صمم لنفسه تقسيما إداريا على المقاس يضم الحسيمة مع أن هذه المدينة لمختلف الأسباب المعروفة للجميع؛ تنتمي لجهة الشرق. بل هناك ما هو أكبر من كل هذا؛ فعلى الصعيد الدولي ضاعف من مبادراته الشخصية التي لا تتفق مع ثوابت السياسة الخارجية للدولة: في مالي مع مختلف الفصائل، وفي لبنان مع الحركات الفلسطينية المعارضة لمحمود عباس، وفي كردستان، وفي برشلونة مع المجموعة الانفصالية لكتالونيا؛ مع التلويح دائما بعلم منطقة الريف.

لحظة الحساب حلّت

لقد كانت تستهويه السباحة في المناطق البرتقالية حتى ليكاد يقترب من الحمراء. لقد بنى نظاما حول شخصه، بشبكاته وخيوطه؛ سواء في الداخل أو في الخارج؛ في إسبانيا، وفي هولاندا، وفي غيرهما. غير أن لحظة الحصيلة الشاملة قد حلت؛ مع ما يستتبعها من ثمن سياسي في كل المجالات. في الريف؟ مَكَّن للزبونية دون اكتراث بإنجاز البرامج المعلنة. في حزب الأصالة والمعاصرة؟ ولا هنا قد نجح أيضا؛ حتى إنه كاد يُفشِل كل الزخم؛ وكنموذج على ذلك؛ أنه رسَّخ صورة سلبية أضرت بمسانديه. لدرجة أنه لم يكن هنالك من حل آخر غير إبعاده في يوم 28 شتنبر من رئاسة جهة الشمال. إنها لحد الآن تصفية ذات طابع سياسي؛ ومن المحتمل أن تقود إلى المساءلة وتقديم الحساب.

إنه انهيار زعيم. ويبقى هذا التساؤل المبدئي الأخير: لماذا يفبرك النظام هذا النوع من البروفايلات؛ زعامات زائفة للواجهة، هي عبارة عن وهم كان بمثابة تراجع عن مسار تجديد العادات والأخلاق السياسية، كما هو تراجع عن الانتقال الديمقراطي الصعب؟

*أستاذ القانون الدستوري ومحلل سياسي

 

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي