سليمان الريسوني يكتب.. عندما يصبح القبر مؤشرا على الديمقراطية

26 أكتوبر 2019 - 18:20

تعد القبور من المؤشرات التي أغفلها المتخصصون في العدالة الانتقالية لقياس منسوب الانتقال الديمقراطي في بلد ذي ماضٍ ديكتاتوري أو سلطوي، وهل ذلك البلد وصل إلى ديمقراطية كاملة، أم إنه متردد بين ديمقراطية معيبة وديمقراطية هجينة، أو أنه مازال رهين نظام سلطوي أو ديكتاتوري، حسب تصنيف وحدة الاستخبارات الاقتصادية (EIU) في لندن، والتي صنفت المغرب، خلال 2019، ضمن الديمقراطيات الهجينة، بعد حصوله على معدل أقل من 5 على 10، وهو التصنيف الذي لم يبرحه المغرب منذ سنوات. كيف تكون القبور، إذن، مؤشرا لقياس الديمقراطية؟

خلال أقل من شهرين، ستعرف ثلاثة بلدان من جنوب وشمال ضفتي البحر الأبيض المتوسط، هي تونس وإسبانيا والمغرب، أحداثا ذات علاقة بالقبور. لقد دفن الرئيس التونسي الراحل، زين العابدين بنعلي، في مقبرة البقيع بالسعودية، يوم 24 شتنبر الفائت. ويوم 24 أكتوبر الجاري، نقل رفات الجنرال، فرانسيسكو فرانكو، من ضريحه الضخم بوادي الشهداء إلى قبر متواضع بمقبرة عائلته قرب مدريد. وبعد خمسة أيام من نقل رفات فرانكو، سيحيي الحقوقيون والتقدميون المغاربة، يوم 29 أكتوبر، ذكرى اختطاف واغتيال المهدي بنبركة، وسيطرحون السؤال المعلق منذ 54 سنة: «أين هو قبر الشهيد؟». إن طريقة التعاطي الشعبي والرسمي مع جثامين كل من بنعلي وفرانكو وبنبركة، في بلدانهم الأصلية، تساعد في قياس منسوب الديمقراطية والإرادة الشعبية في كل من البلدان الثلاثة. كيف ذلك؟

توفي الرئيس التونسي السابق، زين العابدين بنعلي، في السعودية، ودفن في جنازة عادية لم يحضرها أي مسؤول سعودي أو تونسي، فيما كانت كاميرات التلفزيونات العالمية منشغلة بتغطية أجواء ثالث انتخابات ديمقراطية جرت في تونس بعد ثورة الياسمين، التي قادت بنعلي وأصهاره ومحيطه إلى الهروب أو السجون. لقد صورت هواتف بعض المشيعين الهواة كيف حمل جثمان الرجل، الذي حكم تونس مدة 23 سنة بالنار والحديد، على آلة حدباء ليدفن وسط موتى من عامة الناس، وكيف انفضَّ المشيعون من حوله عائدين إلى انشغالاتهم. لقد قابل التونسيون رحيل الرئيس الدكتاتوري بالانشغال باختيار الرئيس الديمقراطي. إن هذه الطريقة في التعامل مع وفاة ودفن زين العابدين بنعلي تؤكد شيئا مهما، هو أنه إذا كان الاستبداد يحدد للشعوب كيف تتعامل مع المستبد الذي يحكمها حيا وميتا، فإن الديمقراطية تعطي الشعوب حق اختيار الحاكم بالتصويت عليه أو مقاطعته، وحق اختيار طريق التعاطي مع وفاته. هكذا نقلت الكاميرات، بشكل غير مألوف عربيا، الرئيس السابق يصوت على الرئيس اللاحق. كما نقلت مرشحا للرئاسة، هو عبد الفتاح مورو، يعود إلى مقعده رئيسا لمجلس النواب بالنيابة، ويقدم منافسه قيس سعيّد لأداء اليمين الدستورية، وهو يعدد خصاله ويمتدح كفاءته، بروح ديمقراطية لا مثيل لها في الوطن العربي.

في مدريد، نُقل رفات الديكتاتور، فرانسيسكو فرانكو، بعد 44 سنة من وفاته، من مقبرة وادي الشهداء الضخمة، إلى مقبرة عائلية بسيطة. لم يعطَ الحدث طابعا رسميا، حيث اقتصر الحضور على بعض أفراد أسرة فرانكو، وقضاة أشرفوا على تطبيق قرار نقل رفات الديكتاتور، الذي تسبب انقلابه على الديمقراطية وحكمه الفاشي في مقتل أزيد من 300 ألف من الإسبان، ناهيك عن مئات المفقودين، وآلاف الذين تركوا منازلهم وفروا خارج إسبانيا.

لقد اعتبر بيدرو سانشيز، رئيس الحكومة الإسبانية المؤقت، أن استمرار وجود قبر فرانكو إلى جانب مقابر شهداء الحرب الأهلية، يسيء إلى الديمقراطية، وأن قرار نقل رفاته ينهي التمجيد العام الذي كان يتمتع به هذا الديكتاتور بحكم وجود قبره في مقبرة الشهداء. لقد ربط سانشيز قرار نقل رفات الديكتاتور بالديمقراطية، لأن أغلب الشعب الإسباني كان يتساءل: ما معنى أن نقول إن اسبانيا عرفت انتقالا كاملا نحو الديمقراطية، إذا كنا مازلنا نمجد الديكتاتور؟

إن ما أقدمت عليه الحكومة الإسبانية، بصرف النظر عما إذا كان يخدم الديمقراطية أم فقط يرضي سيكولوجية الديمقراطيين الذين لم ينسوا كيف نكل بهم فرانكو وقتلهم وشردهم، يخيف الكثير من الأنظمة المترددة في تحقيق انتقال كامل نحو الديمقراطية، إذ من المؤكد، بل ومن الطبيعي أن تتساءل، بتخوف: هل تمكين الشعب من كامل السلطات سيكون نفيا لتاريخ وجودها؛ بما يقود إلى محو أسماء رموزها من العملات والشوارع والمؤسسات؟ إن هذا، إلى جانب المحاسبة القضائية والمالية، عامل من العوامل التي تبقي هذه الأنظمة معلقة في منطقة وسطى ومترددة بين الديمقراطية والسلطوية، لذلك، يجب التفكير في هذا الأمر بصوت مسموع خلال الحديث عن أي انتقال ديمقراطي محتمل.

مقابل طريقة دفن بنعلي ونقل رفات فرانكو، واللذين حدثا –بقرار ديمقراطي- بعيدا عن أي احتفاء شعبي أو حكومي، فإن عدم كشف الحقيقة الكاملة في ما جرى للمهدي بنبركة هو أحد الأدلة على أن المغرب لم يصل إلى ديمقراطية كاملة، ودليل على أن وصول رفاق المهدي إلى الحكومة وإلى وزارة العدل، في ثلاث مناسبات، لا يعني وصولهم إلى القرار. فهل يمكن القول إن عدم تحديد قبر المهدي -إن كان له قبر- مؤشر مهم على طبيعة ديمقراطيتنا؟ في تقديري، نعم.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي