يونس مسكين يكتب: تعب كثير ونفع قليل

17 فبراير 2020 - 18:00

شهدت مدينة «ميونيخ» الألمانية، نهاية الأسبوع الماضي، مؤتمرها السنوي التقليدي حول الأمن في العالم. ورغم أن هذا المنتدى بات تقليدا يتكرر كل عام، فإن المراقبين الذين حضروا أو تابعوا أشغاله، كادوا يجمعون على الطابع الاستثنائي لمؤتمر هذه السنة، إلى درجة قال معها رئيس المؤتمر، وهو مدير معهد ميونيخ الدولي للأمن والسياسات الدفاعية، فولفغانغ إيشينغر، إن مؤتمر هذه السنة يعتبر الأهم خلال العشرين سنة الماضية، أي منذ بداية الألفية الثالثة.

أين تكمن أهمية مؤتمر هذا العام؟ إنه، وبإجماع المراقبين، تأكيد المنحى الذي برزت معالمه في السنوات القليلة الأخيرة، والمتمثل في أفول شمس الغرب وتفككه، ودخول أطراف جديدة إلى دائرة صنع القرار السياسي والاقتصادي والأمني في العالم. ومن سخرية التاريخ، أن هذا المؤتمر، الذي تأسس عام 1963 ليجمع بين كل من ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وباقي أعضاء حلف شمال الأطلسي، انطلق هذه السنة على وقع هجوم يكاد يكون الأعنف من نوعه في التاريخ الحديث، من جانب الرئيس الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، على نظيره الأمريكي، دونالد ترامب، متهما إياه بالانطواء والأنانية.

وبقراءة سريعة لأبرز المداخلات والتقارير التي كشفتها أشغال مؤتمر ميونيخ، سواء الذي انعقد في اليومين الماضيين أو دوراته الأخيرة؛ سنعرف أن الأوربيين باتوا على يقين من أن إعلان الولايات المتحدة الأمريكية انسحابها من منظومة الدفاع المشترك، التي يجسدها حلف شمال الأطلسي، بات مسألة وقت ليس إلا.

فهل علينا أن نقلق من تحولات كهذه، كما نقلق من ارتفاع حرارة الأرض والتلوث البيئي؟ أخشى أن الأمر يعنينا بدرجة أكبر من ذلك، ويكفي أن نلتفت إلى الوضع الذي باتت عليه ليبيا، من اضطراب وتمزق وفوضى، لم يكن أحد ليتوقع حدوثها على بعد أميال من السواحل الأوربية.

من كان، قبل عقد واحد من الآن، يتخيّل أن النظام العالمي «الجديد» ذا المركزية الغربية، سيسمح بمثل هذا التهديد الأمني والاقتصادي في مجال حيوي بالنسبة إلى أوربا؟ وهل علينا أن نتخلص من وهم استحالة قبول نظام المركزية الغربية بتهديد المغرب ومحيطه بمثل هذه الفوضى والاقتتال الدائرين في ليبيا؟

أعتقد أن الأمر أكبر من ذلك، ولا يعنينا باعتبارنا دولة واقعة في مدخل أوربا الغربية فقط، بل يمسّنا في عمق كياننا. ففي جميع دول المعمور، يعتبر العنصر الإقليمي والدولي جزءا من البنية الداخلية للأنظمة السياسية للدول. وفي حالتنا، يعتبر النظام السياسي المغربي، في شكله الحالي، وليد مرحلة تشكل المنظومة الغربية المتأزمة حاليا، وكل اضطراب التوازن القائم فيها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا يمكن إلا أن نسمع أصداءه بين ظهرانينا.

وعندما نقول النظام السياسي، فإن ما نقصده بالضبط هو هذه المعادلة التي تحقق التوازن، ليس بين القوى والتناقضات الداخلية للمغرب، بل أيضا، وأساسا، بين مصالح البورجوازيات المحلية، وبين مصالح قوى خارجية فاعلة بشكل مباشر في بنية هذا النظام.

لقد تشكل النظام السياسي المغربي، على هيئته الحالية، في بداية الأربعينيات، حين جمع السلطان محمد الخامس بين التحامه بالحركة الوطنية الممثلة لمصالح محلية، وبين تغيّر المعطى الخارجي، حين خفّت سطوة المستعمر بدخول العنصر الأمريكي على الخط. فرغم أن الدور الأمريكي في المنطقة كان محدودا وقتها، فإنه كان ضروريا بالنسبة إلى النظام المغربي لتقوية موقعه التفاوضي مع حليفه الغربي، من خلال لعبه على التناقضات الدقيقة بين ضفتي الأطلسي، بالطريقة نفسها التي يتحقق بها التوازن بين التناقضات الداخلية.

فوثيقة المطالبة بالاستقلال، وما تلاها من معركة الحصول على الاستقلال التي قادها ابن يوسف، أعقبت الموقف الذي اتخذه المغرب خلال الحرب العالمية الثانية، واصطفافه إلى جانب مستعمريه (الحلفاء). اصطفاف لم يكن نتيجة تأثير متلازمة ستوكهولم، بقدر ما كان خيارا استراتيجيا واعيا، برزت معالمه في مؤتمر أنفا (يناير 1943)، ولقاء محمد الخامس بالرئيس الأمريكي، تيودور روزفلت، واستعمال السواحل المغربية لإنزال القوات الأمريكية التي «ستحرر» أوربا، كما أسهمت في تحرير المغرب من السيطرة المطلقة لـ«أصدقائه» الأوربيين، عبر الضغط عليهم بورقة أخيهم الأكبر الآتي من وراء المحيط الأطلسي.

شاءت حركة التاريخ أن تخرج الورقة التي لعبها المغرب حينها رابحة من مأساة المعركة الكونية، وكان تموقعه الواضح في قلب المنظومة الغربية حصنا أمام التهديدات الإقليمية، وإلا لما كانت جلّ رسائل الملك الراحل الحسن الثاني، إلى أصدقائه الأمريكيين والأوربيين خلال حرب الصحراء، لتترافع بحجة هذا الانتماء المغربي إلى المعسكر الغربي، وباعتبار الخصم ممثلا للمعسكر الشرقي وحاملا سلاحه. وبالتالي، كان هذا التموقع يسمح للمغرب بالحصول على الدعم المالي والعسكري.

نحن معنيون، إذن، وبشكل مباشر، بالمخاض الذي عبّر عنه مؤتمر ميونيخ، وما لاح فيه من بوادر تفكيك هذا الغرب الذي استندنا إليه طويلا. وإذا كان خيارنا أثناء الحرب العالمية الثانية قد صادف منحى تطوّر التاريخ، فإن الحظ لا يبتسم دائما، كما لا يرحم من يتخلف عن قراءته وتقديم الجواب المناسب في الوقت المناسب. وهو ما يبدو المغرب بصدد محاولة القيام به حاليا، مع كثير من التردد وعدم الحسم.

إن مصائر الدول والشعوب تحدد في الخيارات التي تتخذ في منعطفات التاريخ. فالسلطان أحمد المنصور الذهبي، الذي بويع في ساحة معركة وادي المخازن وسيوف المغاربة لم تجف بعد من دماء ملك أوربي وجنوده؛ فضّل أن يعود أدراجه نحو الجنوب وإخماد التمردات الداخلية. واعتبر هذا السلطان السعدي أن غزو الأدغال الإفريقية أهم من تحرير الثغور المغربية التي يحتلها الأوربيون ودفع العثمانيين عن الحدود الشرقية للبلاد.

لم يكن «المنصور» يعرف وقتها أن الانكفاء على الذات لا يعني البعد عن التهديدات، وأن خطر احتلال البلاد بعد أربعة قرون سيتسرّب من جهتي تلمسان (معركة إيسلي) وسبتة (معركة تطوان). رحل المنصور وبقيت قولته المأثورة، التي ردّ بها على منتقدي تخاذله في مواجهة القوى الكبرى الطامعة في البلاد، معتبرا أن باب الأندلس «انسدّ عنا»، وبلاد السودان أولى من منازلة الترك لأنها «تعب كثير في نفع قليل».

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي