ساعات بالقرب من "كورونا".. ضغط رهيب يقع على عاتق الأطر الصحية- ربورتاج

28 مارس 2020 - 16:20

فجأة انطلق ذلك الصوت قويا وواضحا من هاتف محمول، ربما نتيجة لمسة خاطئة. « والله مكاينة شي كورونا.. والله تا كيكذبوا عليكم ». ثم اختفى كما لو أنه لم يكن، وسط أناس لا تعنيهم السخرية في شيء، وقد جاءوا من أماكن شتى إلى المستشفى الجامعي ابن رشد، بالدار البيضاء، بحثا عن علاج لأمراضهم، في ظرفية صعبة جدا.

كان الوصول إلى قاعة الفحوصات بالأشعة وحده بطولة. فالمستشفى يعيش وضعية خاصة للغاية، بفعل الوصول المتكرر لسيارات إسعاف تحمل إليه أشخاصا يحتمل أن يكونوا مصابين بفيروس « كوفيد 19 ». والدخول إليه محفوف بالمخاطر، أما الوصول إلى قاعات الفحص والعثور على طبيب يمكنه أن يتحدث بطيب خاطر، يشبه قصة من الخيال.

هناك، في ذلك المكان بسقفه العالي جدا، وجدرانه البيضاء الحزينة، والأبواب الخشبية البنية، وتلك المقاعد التي يتردد الناس في الجلوس عليها، ثم يجلسهم التعب رغما عنهم، تجمهر عدد قليل ممن اضطرهم المرض إلى المجيء لمستشفى ابن رشد، الشهير باسم « موريزكو ». فبين الفينة والأخرى كان يأتي من يراقب الوضع، ليقول للناس: « الله يرضي عليكم، اللي معندو لاش يبقى هنا يخرج. الزحام ممنوع ».

حين صدر ذلك الصوت مرة أخرى، وبالقوة والوضوح نفسيهما من هاتف محمول، وربما بالخطأ ثانية، وصاحبته تصرخ: « والله مكاينة شي كورونا.. والله تا كيكذبو عليكم »، ثم اختفى مجددا، سمع صوت آخر غير بعيد، وهذه المرة للحارس المكلف بمراقبة الدخول والخروج، وهو يقول من خلف الكمامة الموضوعة على نصف وجهه: « تساخرو. حيدو. ها عار الله لما سمعو مني، راهم جايبين ثاني شي حالة. واش مكتخافوش على راسكم؟؟ »، ثم حدق في شاب كان يرافق أمه المريضة، وقال له، وربما اختاره فقط ليضرب به المثل لغيره: « واش باغي تموت، الله يهديك أولدي، تساخر اللور، راه غيدخلوه من هنا ».

ومن نافذة صغيرة تعلو الأرض بحوالي متر ونصف، بدت السماء تحمل غيما مطيرا. وفي الباحة التي تفضي إلى المستعجلات، ضجت الدنيا بصوت سيارة إسعاف خاصة، تحمل وسم « كوفيد 19″، فطلب من الناس أن يبتعدوا، ويفسحوا المجال كي يعبر شخص جيء به، وقيل إنه قد يكون حاملا للفيروس اللعين. ولم يبق أحد إلا التصق بشق في نافذة قاعة الأداءات؛ كل يريد أن يرى شكل الشخص المشكوك بأنه يحمل « الفيروس ». وكأن كورونا يُرى بالعين المجردة.

ثم جاءت ممرضة تشتغل في قسم الفحص بالأشعة، وهي تحمل بدورها كمامة تكاد تخفي وجهها كله، لتقول للناس: « رجاء، ديرو غير شوية التيساع بيناتكم. راه ممنوع الزحام ». ولم تكد تكمل كلامها حتى تجمهر حولها بعضهم، كل يرغب في أن يسبق إلى الفحص، وقال أحدهم: « راني غير جاي ندير خير في السيدة، شوفو من حالها الله يجازيكم بخير. راها كتموت، وما عندها حد ». ثم رفع صوته بغضب: « واش ماشي حرام نبقى نمشي ونجي؟ ».

وبهدوء كبير استمعت له الممرضة، فيما كان الآخرون يلتصقون ببعض، يقتربون منها أكثر، كل يريد أن يسلمها الأوراق التي بين يديه، عساها تجد له حلا. ولكن هيهات، فقد كان كورونا يملأ الدنيا ويشغل الناس، فتشعر بأن الممرضين والأطباء، وغيرهم ممن يشتغلون بالمستشفى الجامعي، يقعون تحت ضغط أقوى منهم، وينال منهم التيه، لكثرة انشغالهم بالفيروس.

في الخارج، وكانت قطرات المطر بللت الإسفلت، وسقت الشجر والعشب، وغسلت السيارات الرابضة هناك، ظهر أن الزوار أقل عددا بكثير مما يكون عليه الأمر في الأيام العادية. فيمكنك السير لمسافات طويلة بهدوء، ودون أن تصطدم بزحام. ولا تلتقي، في الأغلب، سوى بأطباء أو بممرضين أو مستخدمين أو حراس، سيحدقون فيك باستغراب، وكأنهم يتساءلون: « ما الذي جاء بهؤلاء إلى هنا في مثل هذا الوقت؟ ».

وبالفعل، فقد سأل أحد الحراس: « أش كدير هنا؟ ». قلت: « جيت نشرب قهيوة »، وضحكنا. قال لي: « بصدق، الوضع صعيب، من الأحسن إلى قضيتي الغرض تمشي فحالك ». ثم واصل كلامه وهو يبتعد: « قلت ليك وصافي، ولكن أنت تعرف ». وبدا أنه يغمغم بكلمات ما، منشغلا هو الآخر بما يقع من حوله، ويلقي بثقله على كل من يشتغلون في المستشفى.

في جناح السكري، مثلما في جناح أمراض القلب والشرايين، كان عدد الزوار قليلا جدا. وهذا غير مألوف في الأيام العادية. وما أن تدخل هناك، حتى تتفحصك الأعين مليا، كما لو أنها سكانير حقيقي، يفحصك جيدا، ليتيقن بأنك لست تحمل فيروس كورونا، وبالتالي، يمكن للمعني البقاء هناك، أو « الفرار بجلده » مخافة المرض اللعين.

كان واضحا جدا أن الزوار منضبطون للمسافة التي يفترض أن تكون بين شخص وآخر. غير أن النسيان سرعان ما يلعب لعبته الأثيرة في عقول الناس، فتجد الجميع يقترب من المسؤول عن القسم، ليعرف منه موعده، أو يطلب منه خدمة، أو يحاول الضغط بكلمات عصبية عساه يفوز بالدخول إلى قاعة الفحص، ثم يفر بجلده من مكان مثقل بضغط نفسي رهيب.

قالت طبيبة شابة، لم تكن تضع كمامتها على وجهها بخلاف أغلبية العاملين بالمستشفى، لرجل مسن: « واش انت أسيد الحاج اللي عندك مشكلة في اليد؟ ». قال لها: « نعم أبنتي الله يرضي عليك ». ثم قالت لما فحصت اليد بسرعة: « الله يجازيك بخير أسيدي متبقاش تجي هنا. غادي نعطيك الواتساب ديالي، وترسل لي البيانات ديال السكري من الدار. الله يجازيك، راه المرض كيدور هنا، ونخاف عليك ».

ولم تكن الوحيدة التي عبرت عن الخوف. هي نطقت الكلمة، ورسمت المشاعر بكل وجهها، بل وبتلكما الهالتين الزرقاوين حول عينيها، تدلان على قلق وضغط وتعب، وترقب لشيء غير واضح، ويزداد غموضا كلما صار أوضح من قبل. الآخرون كانوا يمرون بسرعة أكبر من المألوف، أو يقفون أقل من الوقت اللازم طبيعيا، ثم يتحركون إلى مكان آخر، وهكذا. لا يثبت أحد منهم. الحيرة تملأهم، ويزيدهم التعب شعورا بالحاجة إلى راحة ليست موجودة راهنا.

في كل زاوية من المستشفى، وحين كانت سيارات الإسعاف الخاصة بنقل أشخاص يحتمل أنهم مصابون بفيروس كورونا، كان الممرضون، وغيرهم من العاملين بابن رشد، يقفزون من أماكنهم؛ حتى من يبدو أنهم مكلفون بالوثائق والأداءات، ليطلبوا من الزوار الوقاية لأنفسهم، وينهرونهم إن لزم الأمر ذلك وهم يرونهم متجمهرين، وليعرفوا الجديد.

قال أحدهم لآخر، وكانا يمشيان متقاربين من بعضهما، ربما لغفلة، أو نسيان، إن شخصا جيء به إلى المستشفى قبل قليل لاذ بالفرار. ولم ينتظر حتى يسأله الآخر إن كان الخبر صحيحا أم كاذبا، ثم مضى يحكي له عن الواقعة: « جيء به لكي يخضعوه للفحص، لكنه طلب إعادته إلى البيت حيث أولاده. وبعدها لاذ بالفرار ». وظل الآخر صامتا، وكأنه لا يصدق الحكاية، أو لأنه لا يريد المزيد من الأخبار المزعجة، أو ربما لأنه يعرف أن الواقعة غير صحيحة، ويخجل أن يشعر صاحبه بأنه يهذي.

ثم جاءت سيارة إسعاف ثالثة، وتوقفت على بعد حوالي ستين مترا من الباب الرئيس. وفيما كان يتجمهر حولها بعض الممرضين والممرضات وحراس أمن، إذا بشابة تنزل منها، وهي تقول: « أنا ماشي مريضة. وماشي أنا اللي مريضة ». وكلما حاولت أن تنزع الكمامة عن وجهها ليظهر صوتها واضحا، وتثبت أنها سليمة، إلا وفزع من تجمهروا، وطلبوا منها، وبإلحاح، أن ترجع كمامتها، وتعود فورا إلى داخل السيارة.

وحين تحركت تلك السيارة إلى مكان آخر، عاد الحراس إلى عملهم، وتذكروا أنه كان عليهم تفريق من يتفرجون على المشهد، وليس التفرج عليه مع المتفرجين. قال أحدهم لشاب يحمل حقيبة أمه على ما يبدو، وهي تغادر لتوها قسم السكري، « واش فينما تبان ليكم شي مصيبة تجيو تتفرجو؟ وتا زيد أصاحبي خرج فحالك، دي ميمتك، لا توليو فمشكلة كبيرة ». ولم يقل الشاب كلمة، وقد حثته أمه كي يسرعا الخطى إلى الباب.

أثناء العودة، عبر مرس السلطان، ودرب السلطان، والمشور، والفداء، وحي الفرح، وسيدي عثمان، وبقية الأحياء الهامشية للدار البيضاء، كانت الشوارع خالية من أهلها، وليس فيها سوى حواجز أمنية لمراقبة الوضع. وسمع أحدهم يقول، وقد توقفت السيارة في تقاطع شارع الفداء ومحمد السادس: « الحمد لله، الناس التزموا بالتعليمات. هذا شيء يسر ». وفي الزجاج الأمامي كانت ما تزال تظهر صور الأطباء والممرضين وأطر المستشفى وهم يحملون كماماتهم، ويتحركون بوجوه تملأها الحيرة، وعيون تتحدث لغة التعب، على وقع واجب وطني تنوء بحمله الجبال. صورة إحداهن لا تنسى، وهي ترفع كمامتها عن وجهها، فتبقى تلك الخدور التي حفرتها الساعات الطويلة من العمل، والضغط، والألم، والأمل، على أنفها، وخديها، وجزء من ذقنها، وابتسامتها الحائرة تقول إنها ستواصل الحرب على كورونا، حتى إشعار آخر. « جبت معايا غذايا، ولكن نسيت ما تغذيت ». قالت، وكان المؤذن يرفع أذان صلاة المغرب، والسماء تهيء مطر الليل واليوم الموالي.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي