إسماعيل حمودي يكتب: عقلية انقلابية

01 مايو 2020 - 18:20

الصادم في مشروع قانون «تكميم الأفواه» ليس مقتضياته التسلطية إلى درجة الوقاحة، والتي رفضها المجلس الحكومي بدوره بصيغة ملطفة حين أعاد المشروع إلى لجنة تقنية ثم لجنة وزارية، لكن المشكل يكمن في العمق، وتحديدا في تلك العقلية الانقلابية والتسلطية التي كتبت مشروع القانون، وتعيش بيننا، بل وتتقلد موقع المسؤولية في الحكومة أو على ضفافها.

إن السؤال الذي ينبغي الوقوف عنده هو التالي: كيف يمكن أمثال هؤلاء أن يكونوا موجودين بيننا وفي موقع المسؤولية بعد دستور 2011؟ كيف يسمحون لأنفسهم بالاستمرار في التفكير وفق الطريقة البعثية الدموية، وأن يُسخّروا موقعهم في مراكز السلطة للانتقام والتسلط على المغاربة؟ وفي سؤال موجز: من أين لهم بكل هذه الوقاحة؟

لقد انقلبوا على الدستور، الذي جعل من الاختيار الديمقراطي ثابتا من الثوابت الوطنية، إلى جانب الملكية والإسلام والوحدة الترابية، والذي حصّن، في الفصل 175 منه كذلك، المكتسبات في مجال الحقوق والحريات من أي مراجعة، إلى جانب الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، وبالنظام الملكي للدولة، وبالاختيار الديمقراطي كذلك. ومعلوم أن حرية الفكر والرأي والتعبير من الحقوق الأساسية التي ورد تأكيدها في الفصل 25 من الدستور نفسه.

كما انقلبوا على التزامات المغرب الدولية، وخصوصا المعاهدات والاتفاقيات الأساسية لحقوق الإنسان، التي صادق عليها المغرب والتزم بها أمام العالم، بل مافتئ يسوّق نفسه لهذا العالم باعتباره البلد الأكثر ديمقراطية وحرية في المنطقة. وباسم الاختيار الديمقراطي والجهوية والحكم الذاتي ودستور الحقوق والحريات، اقترح تسوية قضية الوحدة الترابية ولايزال. لكن، يبدو أن من كتب مشروع القانون أراد الانقلاب على ذلك التصور كله، وضرب كل الجهود الوطنية أمام العالم للحفاظ على وحدتنا الترابية في الصفر، لا لشيء سوى لأنه تصور الفرصة سانحة لكي يجهز على الحقوق والحريات، وأساسا لكي ينتقم، ويوسّع من سلطاته أكثر.

بل إن الذين كتبوا هذا المشروع القانون انقلبوا على مكتسبات المسار السياسي والديمقراطي التي تحققت طيلة 20 سنة المنصرمة من حكم الملك محمد السادس، هذا الملك الذي طوى في بداية حكمه عهدا استبداديا من خلال تجربة الإنصاف والمصالحة، وطالما أكد في خطبه انحيازه الصريح إلى المشروع الديمقراطي، وصادق على مشروع الدستور الذي ارتقى بالاختيار الديمقراطي إلى مصاف الثوابت الوطنية، كما سبقت الإشارة إلى ذلك.

يحز في النفس أن الذي قُدّم مشروع القانون باسمه وزير ينتمي إلى حزب عريق هو الاتحاد الاشتراكي، ذلك الحزب الذي تزعم النضال من أجل الحرية والحداثة عقودا طويلة، بل قدم للشعب المغربي مفكرين كبارا وطّنوا الحرية والحداثة في الفكر المغربي، بل قدّم قادة كبارا أيضا، أمثال عبد الرحمان اليوسفي، الذي يصفه الكثيرون بأنه القائد الأول للحقوق والحريات في منطقتنا المغاربية والعربية. إنه لمن العار أن يُقزَّم دور الاتحاد الاشتراكي إلى الحد الذي ينقلب فيه على هويته التاريخية، ويصبح مجرد بيدق صغير في يد المصالح البورجوازية لبعض قيادات التجمع الوطني للأحرار أو من يلف لفّهم.

إني أحاول، منذ اطلاعي على مشروع القانون، تفكيك العقلية التي كتبته، فمن حيث مضامين المواد، نحن إزاء قانون جنائي خاص بالأنترنت، تطفح منه روح السلطوية والاستبداد، اختار كاتبوه السير وفق النهج الروسي والصيني والإيراني في تنظيم حرية الأنترنت، وهي دول لم تكن يوم ما مرجعا للمغرب في مجال تنظيم الحقوق والحريات، علما أنها دول اختارت بكل وضوح عزل أنترنت بلادها عن العالم، كما هو الحال بالنسبة إلى التجربة الصينية، التي أغرت روسيا بالسير في الاتجاه نفسه منذ تبنيها قانون «الأنترنت السيادي» قبل عام تقريبا.

لكن، لا يبدو أن المغرب يتوفر على القدرات التي تسمح له بعزل الأنترنت عن العالم، فهو لا يملك القدرات التقنية والتكنولوجية اللازمة لذلك، ورغم أن كاتبي مشروع القانون على معرفة بهذه الحقيقة، فإنهم اختاروا السير وفق المنطق السلطوي، ربما إرضاء للوزير حفيظ العلمي الذي صرّح يوما بأنه لو تبنى المغرب الديكتاتورية لتطور بسرعة، كما لو أن هذا المغرب كان ينعم في جنات الحريات المطلقة منذ استقلاله عن فرنسا قبل عقود من الزمن، وكأنه لم يعش معنا تجربة الإنصاف والمصالحة وهي تحاول لملمة الجراح التي نكأتها السلطوية في زمن مضى.

بما أن كاتبي مشروع القانون يعرفون أن تنظيم الأنترنت يتطلب امتلاك القدرة والإرادة السياسية لكبح جماح الشركات، من مزودي خدمات الأنترنت، بغرض حماية المصالح الوطنية وحماية المواطنين كذلك من شرورها المفترضة، فقد فضلوا الحل الأسهل، أي التوجه إلى المواطن/المستهلك فقط، ليس لحمايته، بل للانتقام منه وخنق حرياته، لا لشيء إلا لأنه بات قادرا على استخدام الأنترنت للدفاع عن حقوقه وحرياته التي تهدر، أحيانا، دون مبرر مقنع، بل خارج روح الدستور ومقتضيات القانون.

نحن، إذن، أمام عقلية عاجزة، انتقامية، سلطوية، انقلابية، لا تؤمن بدستور ولا بقانون. إنها لا تؤمن بالإنسان المكرم، بل تؤمن بالمصالح فقط، وهي مستعدة لخنق هذا الإنسان لحماية مصالحها، مادية كانت أم معنوية، بل وتسخير مواقعها في مؤسسات الدولة من أجل تحقيق أحلامها الفظيعة، لكن أنى يكون لها ذلك.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مرافعة مواطن منذ 3 سنوات

هم بعيدون كل البعد عن عقلية البعث في العراق سابقا ... أما إذا كنت تقصد البعث في سوريا فنعم ، فهذا الأخير مشابه للنظم الاستبدادية الشمولية في بنجين و في موسكو و في كوريا الشمالية و إيران ... و هذا القانون مشابه لما عندهم ...

محمد محفوض. منذ 3 سنوات

الله يجازيك عن هاذا المقال الذي لم يترك لي ما اقول

الديكتاتور منذ 3 سنوات

في تعليق على مقال نشرته منذ بضع أيام أحدى الجرائد الرقمية كتبت نفس ما جاء في المقال ولكن بأسلوب جد مقتضب. نص التعليق المذكور : وختم (نزار خيرون المستشار الاعلامي لرئيس الحكومة) :”ثانيا: الصيغة التي نشرت، هي لمشروع أولي في البداية أصبح اليوم متجاوزًا، ونشرها في هذا الوقت بالذات ليس بريئا“. هذا التصريح بحد ذاته كارثة وعار، لأن الكلام الصادر عن هذا المسؤول هو اعتراف صريح بأن النص الذي تم تسريبه ليس لا ملفقا ولا مصطنعا، بل وجد فعلا في الزمان والمكان. إن النص الذي نعته المسؤول المذكور بـ ”الأولي“ يجسد العقلية الإقطاعية والفيودالية بلغة القرون الوسطى والعقلية الديكتاتورية بلغة العصر لبعض الأشخاص الذين أوكلت لهم مسؤولية تدبير الشأن العام.

عبدالله شهناوي منذ 3 سنوات

عقلية انقلابية.

التالي