سليمان الريسوني يكتب: من الخطر إلى الفرص الضائعة

16 مايو 2020 - 18:00

كلنا يتساءل: كيف سيكون عليه مغرب ما بعد كورونا؟ وبقدر ما نتفق على أنه سيكون مختلفا عمَّا كانه من قبل، نختلف في رسم ملامح هذا المغرب الجديد. وإذا سأل أي منا الآخر: لمَ تختلف معي في أن حالنا سيكون –في جوانب محددة أو في كل الجوانب- أحسن أو أسوأ مما كان عليه؟ سيجيب دون تردد: من العادي أن نختلف باختلاف مواقعنا ومصالحنا التي تحدد أفكارنا الحالية وانتظاراتنا المستقبلية. إن هذه الرؤية المادية للتاريخ، والتي أصبحت تحكم تفكير الليبرالي والإسلامي، كما اليساري، رغم ما تمتلكه من قدرة على تفسير بعض جوانب وعوامل تطور العالم، تحجب عنا مساهمة العوامل الثقافية في التطور. وهذا أثبتته التجارب، وأكده حتى فلاسفة ومفكرون انطلقوا من المدرسة الماركسية نفسها وطوروها، من أمثال رواد مدرسة فرانكفورت الذين قالوا إن البنية التحتية (الاقتصاد) لا تتحكم دائما في البنية الفوقية (الثقافة)، وإن عوامل تقدمنا وتخلفنا لا يحددها فقط موقعنا في الإنتاج.

ليسمح لي القارئ بأن أخبره بأن هذه الأفكار التي بقيت حتى أواسط التسعينيات حاضرة، بقوة، في النقاش الثقافي والسياسي المغربي، داهمتني، الآن، عندما صادفت مقالا بالفرنسية يتحدث عن أن كلمة «أزمة» في اللغة الصينية تتكون من حرفين (رمزين)، الأول يعني «الخطر» والثاني يعني «الفرصة». من المهم التذكير بأن اللغة الصينية لا تتوفر على حروف أبجدية تتجمع لتعطينا كلمة ذات دلالة معينة، كما هو الأمر في أغلب اللغات، بل إن كلماتها تتكون من مجموعة من الرموز هي التي تشكل معنى معينا، لذلك، فإن الحرفين (الرمزين) اللذين يشكلان كلمة «أزمة»، يجسد أولهما رجلاً على حافة الهاوية (الخطر)، ويرمز «الحرف» الثاني إلى الآلة التي تمنح الإنسان فرصة العمل للخروج من الأزمة.

كم هي مدهشة هذه السيمانطيقا الصينية. لا تقف –مثل كل اللغات- محايدة حُيال مفهوم «الأزمة»، ولا تكتفي، للتعبير عنه، بالرمز الأول الدال على «الخطر»، بل تتجاوز ذلك إلى اقتراح «الفرصة» المواتية للخروج من دائرة «الخطر» وتجاوز الأزمة.

إن شعبا يعيش في هذه اللغة («اللغة مسكن الوجود» يقول هايدغر)، لم يكن صعبا عليه أن يستدرك تأخره في وقت وجيز، من الثورة الثقافية، التي عاشتها الصين أواسط الستينيات، إلى الفورة الاقتصادية التي تعيشها اليوم. لذلك، فمن السهل التنبؤ بما ستكون عليه الصين غدا، لأن الصيني لا يرى في الأزمة خطرا فحسب، بل فرصة للتطور كذلك، وللارتقاء إلى وضع أفضل مما كان عليه قبل الأزمة. إن اكتشافي الحديث لكلمة «أزمة» في الكتابة الصينية لخص لي الفكرة الماركسية التي أبهرت المؤرخين، الماركسيين وغير الماركسيين، عن أن التاريخ لا يتطور إلا من جانبه السيئ. هذه الفكرة التي طورها كارل ماركس على امتداد صفحات من كتابه «بؤس الفلسفة»، الذي كتبه بالفرنسية، والتي تعتبر واحدة من أهم مقولاته عن التاريخ: «L’histoire avance toujours par son mauvais côté»، اختزلها الصينيون، قبل آلاف السنين من ولادة ماركس، في كلمة من حرفين؛ الأزمة خطر وفرصة.

قياسا على ما سبق، كيف يمكننا، في المغرب، أن ننطلق من ثقافتنا، ونجعل من أزمة كورونا، هذا الجانب السيئ من التاريخ، فرصة للإصلاح والتحديث السياسي والاقتصادي والاجتماعي؟ خصوصا وأننا بلد لا يكل ولا يمل مواطنوه ومسؤولوه، على حد سواء، من الحديث عن عراقة ثقافته وتفرد حضارته.. لكن من منطلق أنه تراث مغلق للاستعراض والتفاخر، وليس عاملا مساعدا على التطور وتحريك التاريخ. إن الخطوة المستعجلة التي يجب علينا البدء بها لإيقاف النزيف، هي الاستعاضة عن منهجية «الأصالة والمعاصرة» التي ابتدعها الحسن الثاني، بمنهجية «الحداثة المتصالحة مع التراث»، وذلك عبر ثلاث خطوات:

أولا، من خلال الكف عن استدعاء الخصوصية الثقافية لإنتاج معيقات الإصلاح وإطلاق يد السلطوية. لقد رأينا كيف أحيى الحسن الثاني التقاليد السلطانية البائدة وبالغ فيها، لتحجيم التنوع الثقافي والسياسي الذي انبثق من جدلية التثاقف والتمايز التي طبعت علاقة الحركات الوطنية بفرنسا الأنوار والاستعمار، ولشل المؤسسات وإفراغها من أدوارها.

ثانيا، من خلال القطع مع «معاصرة» ضد الحداثة، وذات خلفية مصالحية مع فرنسا، تجسدت، أخيرا، في مشروع القانون الإطار المتعلق بمنظومة التربية والتكوين (فرنسة التعليم)، والذي كان محط رفض كل القوى الحية في البلاد، حداثية كانت أم محافظة.

إن ما بعد أزمة كورونا، وهي لحظة ستخرج منها فرنسا منهكة بجراحها الداخلية أكثر من المغرب، سيساعدنا في التخلص من علاقة التبعية التي كان من أسوأ آثارها علينا الوضع الذي عليه منظومتنا التعليمية التي لا نستطيع إصلاحها دون الالتفات إلى فرنسا، وإقامة حساب للوبي الفرنسي في المغرب، وهو يقاوم أي تأصيل أو تحديث لا يراعي مصالحه.

ثالثا، من خلال الوعي بأهمية إطلاق حوار واسع وبلا حدود، بين الدولة والقوى الحية والمثقفين، حول موضوع الشخصية المغربية –وليس الهوية المغربية- واستثمار العناصر المضيئة في تراثنا للإسهام في الحداثة الكونية. فهل يكون الدرس الصيني ملهما لنا، ونجعل من أزمة كورونا لحظة للخروج من الخطر نحو الفرص الضائعة؟ إننا إذا لم نستغل هذه الفـــرصة، الــــتي قد تكون الأخيرة، سنجــد أنفســنا –حكاما وأحزابا ونخبا- أمام خطر لن يمنحنا فرصة أخر للنجاة. خطر شارع غاضب وغير مؤطر.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك رداً على عبد الحفيظ فرجي إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

محمد العبودي منذ 3 سنوات

ينتابني سؤال ، و انا الذي لا أتوقف عن قراءة مقالاتك باهتمام بالغ ، يمكن إنجازه كما يلي : لم تصر على الاستشهاد بغير ما تحفل به الثقافة العربية الإسلامية التي ينضح وعاؤها بكتبات و مقولات أكثر دلالة من قبيل ، ما دمت معجب بمعنى كلمة أزمة عند الصينيين ، مقولة " اشتدي أزمة تنفرجي " التي تحمل من المعاني ما يتجاوز المعنى المزدوج الذي عثرت عليه في المكتوب الفرنسي على حد قولك ، ناهيك عن الآيات القرآنية و الأحاديث النبوية الممكن إدراجها في هذا السياق ؟! تحياتي الحارة

عبد الحفيظ فرجي منذ 3 سنوات

اشتدي أزمة تنفرجي * قد آذن ليلك بالبلج

مرافعة مواطن منذ 3 سنوات

ــ فقط تذكير : لا وجود للغة صينية بل هي اللغة المندرانية المفروضضة بقوة الجديد و النار على الشعوب المحكومة من طرف بجين ، هذا ليس خاف عنكم ... ــ أما ما ورد في المقال بخصوص المغرب فقد أبدعت ، أصبت الهدف ... فعلا ذلك ما ما نحن في حاجة إليه ...

اتاري منذ 3 سنوات

سيدي العزيز سلام و تحية مقال في الصميم فقط اريد ان اسالك ماهي الحداثة.....لانني اطلعت على مقالات تذم الحداثة و تعتبرها ضدا على الانسانية و حتى لا اطيل عليك اعطيك واحدا من هؤلاء النقاد وهو الفيلسوف نيتش افدنا و شكرا

التالي