منير أبو المعالي يكتب: نحن ضحايا التلفزيون

21 مايو 2020 - 18:00

كان بيير بورديو، وهو عالم اجتماع مرموق، يقول إن الصورة، كما يبثها التلفزيون، تمتلك خاصية يمكنها أن تنتج تأثير الواقع، أي بمقدورها أن تؤدي إلى رؤية أشياء وإلى الاعتقاد في ما تراه. هذه القدرة على الاستدعاء لها تأثيرات ونتائج تعبوية دون شك. في كتابه «التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول»، شرح بورديو كيف يمكن أن يعبئ التلفزيون ويشحن بتورطات سياسية وأخلاقية، قادرة على إثارة مشاعر قوية غالبا ما تكون سلبية.

فعل التلفزيون في المغرب ذلك وهو يحشد دعما لسياسات حكومية لتمديد حالة الطوارئ. كانت الريبورتاجات معدة بعناية، ومن زوايا منتقاة بشكل متعمد، لإظهار حالة عامة من الانتهاك المنهجي لقيود السلطات على حريات الناس في هذه الظروف. قد غُرست في العقول فكرة واضحة عما يجب فعله، في الوقت الذي كانت فيه مؤشرات الجائحة في البلاد تزداد احمرارا. لقد أديرت رؤوس الناس عن التساؤل المشروع حول مقدرة الحكومة على المواجهة اللوجستيكية لتفشي الجائحة، إلى توريطهم في تساؤل أخلاقي عما يجب فعله إزاء أولئك الذين ينتهكون قيود قانون الطوارئ. وببساطة، لم يكن هناك شيء غير متوقع في إعلان الناس مساندتهم تمديد العزل الصحي فترة أطول.

مازال التلفزيون في البلاد ذا تأثير بالغ على كل حال. إن بحث المندوبية السامية للتخطيط يوضح ذلك بجلاء؛ 86.6 في المائة من الأسر في المغرب تتلقى المعلومات حول جائحة كورونا من التلفزيون وقنوات الراديو. وصناعة «وعي» يخدم الاستراتيجيات المقترحة من لدن السلطات الحكومية ليس بعمل عسير في نهاية المطاف، فيما يزداد منسوب الثقة في المصادر الرسمية. دعونا من الشبكات الاجتماعية، فهذه –حيث تتراجع قدرة السلطة الحكومية على الرقابة- لا تشكل سوى هامش حتى الآن. 6.2 في المائة فحسب من الأسر تعتمدها مصدرا، فيما تتراجع الصحافة الإلكترونية إلى الوراء أكثر، حيث بالكاد ترى فيها 3.1 في المائة من الأسر مصدرا لتلقي معلومات حول الجائحة.

تستطيع السلطات، إذن، أن تشعر بالارتياح. إن حشد الجماهير وراءها -وهذا من تعابير عالم الاجتماع غوستاف بولون- قد تحقق. والناس المرعوبون من حوادث الانتهاك، يمكنهم أن يطالبوا بأكثر مما يجب، مثل قمع أكثر قسوة لمنتهكي قواعد التباعد الاجتماعي. ولقد ظهر ذلك في التعليقات المصاحبة لقضية تعنيف قاض بالنيابة العامة من لدن عنصر قوات مساعدة في طنجة الأسبوع الفائت، حيث مال الكثيرون إلى تأييد تصرف أعوان السلطة، بدلا من المطالبة بأن تكون حقوق الناس أولوية. وحتى وإن كان من الصعب إنكار حدوث تجاوزات، فإن الجميع ينظر إليها باعتبارها نتيجة ناجمة عن الضعف الإنساني، فيما المؤسسات بعيدة عن المؤاخذة، مثلما لاحظ هربرت شيللر في كتابه «المتلاعبون بالعقول».
وما هو واقعي يمكن قياسه دون شك. في بحث للمندوبية السامية للتخطيط، طالب أكثر من 85.8 في المائة من الأسر بصرامة أكثر في تطبيق قيود الحجر الصحي. لا يجب الشعور بالفزع، لأن الدعاية الرسمية قد حققت هدفها. إن الناس باتوا تحت تأثير الخوف، يطالبون بقهر السلطة أكثر مما يطالبون بحقوقهم الرئيسة.

مثلا، لم يعتبر سوى 22.3 في المائة من الأسر أن وجود مستشفيات ملائمة ضرورة ملحة. تتعزز مشاعر الحرص على وقاية الناس أنفسهم من الجائحة بالرغبة في أن تسيطر السلطة نفسها على الأوضاع، بغض النظر عن المضمون القانوني أو الأخلاقي للوسائل التي سيجري بها تنفيذ ذلك. وحيث لا يملك الناس حتى وسائل لحماية أنفسهم، فإنهم، بشكل تلقائي، يطلبون حماية قوة قهر، حتى وإن كان ذلك معناه أن يصوتوا ضد أكثر مصالحهم أهمية، وهي تحوير للعبارة المؤسسة للإعلان السياسي في الولايات المتحدة كما صاغها غور فيدال في كتابه «Homage to daniel Shays».

إن الناس بدؤوا يحسون بالملل من طول مدة الحجر الصحي دون شك، وهم ينتهكون باستمرار القيود المفروضة، ولسوف يتعرض حوالي 100 ألف شخص لملاحقات قضائية بسبب ذلك، فيما كانت أشرطة الفيديو وهي تصور شطط أعوان السلطة مثيرة للجدل. لكن كل ذلك لم يعد مهما الآن، فالناس قد جرى تعليب عقولهم -دون أن نوحي بوجود تضليل- ويمكن قولا غير خاضع للتدقيق، مثل زعم رئيس الحكومة بأن استراتيجيات مؤسسته جنبت هلاك مائتي شخص يوميا، أن يتحول إلى مقبض لادعاء مبهر بنجاح السلطة نفسها. ويمكن أن يسنده في ذلك وزير الاقتصاد والمالية، وهو يوزع 11 مليار درهم على الضحايا الجانبيين للجائحة. ليس هناك سبب، إذن، يدعو أي أحد إلى معارضة السلطة. وبحث المندوبية السامية للتخطيط نفسه، وهو يطرح كافة الأسئلة على المستجوبين، لم ير ضرورة في سؤالهم عما إن كانوا يرغبون في رفع الحجر الصحي، وما إن كانوا يرون في تدابير السلطات أعمالا ناجعة. لا يمكن فعل ذلك على كل حال، لأن مصدر السلطة ليس الناس في نهاية المطاف، ولسوف تصبح السلطات الحكومية بأعوانها مجرد «سلطة قهر مستحبة» في هذه الظروف، ويمكنها أن تفعل ما تشاء دون أن تخضع لأي رقابة.

والناس الذين يطالبون بصرامة أكبر في تطبيق الحجر الصحي، هم أنفسهم من يشكون الأعباء البيروقراطية للسلطة ذاتها، والحرمان المنهجي من حقوق خولهم إياها صندوق تدبير الجائحة، إذ تواجه 60% من الأسر التي فقد أحد أفرادها عمله صعوبات في الحصول على المساعدات العمومية. وقد أكدت 59% من الأسر أنها مسجلة لكنها لم تستفد بعد، أي بعد حوالي شهرين. كما أنهم الأشخاص أنفسهم الذين يشكون عدم قدرتهم على الحصول على أدوات الوقاية من الجائحة، حتى إن 91 في المائة من الناس المستجوبين بالكاد يتوفرون على مطهر «جافيل» فقط.

ليس من واجبي الآن تحديد ما إن كان الناس قد تعرضوا للتضليل، لكن من المؤكد أن القائلين في بداية الأمر إن السلطات جنحت إلى المحافظة على حياة الناس وضحت بالاقتصاد، كانوا مضلِّلين بالفعل. في نهاية المطاف، قد نخسر الاقتصاد كما سيخسر الناس. لكن انتبهوا؛ إن الأشخاص الوحيدين الذين يخسرون هم نحن. أما الميسورون، فإنهم بالكاد قد تضرروا. إن 10 في المائة منهم فقط هم من فقدوا مصدر دخلهم، ولقد تلقى 4 في المائة من هؤلاء مساعدات من الدولة، باعتبارهم أفرادا حاصلين على بطاقة «راميد». هذه أشياء لا ترونها ولا تسمعونها على التلفزيون، ودون شك، لن تجد صور مظاهرات الفقراء المحرومين من أي مساعدات طريقها كذلك إلى التلفزيون.

شارك المقال

شارك برأيك

Répondre à متابع Annuler la réponse

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

متابع منذ 3 سنوات

كانت السلطة بغات تسالي الجايحة كانت على الأقل تشد المصانع للي ما كانت عندا حتى ضرورة, بلا ما نهدرو على للي كانت خصا تعمل من الأول, لكن حيت المسؤولين معمية لهم البصيرة هاهما ماشين بالبلاد و للي ساكنين فيها ن الهاوية, و نتا للي غا جي فيك الدقة القاسحة

متابع منذ 3 سنوات

أحسنت التعبير عن رأي كل راشد, لكن في ساعة العسرة لن تفيد البروبكاندا, و سيكون الأوان قد فات للتصحيح و سيهدم المعبد على رؤوسنا جميعا بدءا من القاعدة وصولا الى رأس الهرم. "رجاؤنا في الله"

عباس منذ 3 سنوات

ياسلام حيت زعما بديتي ب "بورديو"بغيتينا نتيقوا هاد التخليل"عفوا التحليل"...اولا مسالة التمديد مسالة صحية بالاساس ماعند السلطة مادير فيها حيت هيا براسها مكرهاتش تسالي الجايحة حيت جميع الاجهزة عيات بالطوارى.. ومكرهاتش تشد التليفون و دير بحالك...الحمد الله لي المصير د البلاد فيد ناس مسؤولة اما كون جات عليكم كون خلات...... س

التالي