محمد جليد يكتب: المدرعة والقلم!

12 أغسطس 2020 - 18:00

تدفعك المشاهد الأخيرة، التي ملأت الفضاء العمومي الواقعي والافتراضي المغربي خلال الأيام الأخيرة، دفعا إلىالحيرة. قد لا يثير فيك، مثلا، نزول الجيش بمدرعاته إلى شوارع المدن لفرض الالتزام بإجراءات الطوارئ والعزلة الصحيةأي دهشة أو اضطراب أو ارتباك، رغم أنه ليس بالحدث المعهود، لا في بلدنا، ولا في بلدان أخرى. لكن أن يتشاجر بعضالمغاربة على الأكباش في سوق مفتوح، وأن ينهبوها، نهارا جهارا، أمام العدسات والكاميرات، وأن يتسابقوا علىالطرقات، في مشاهد قاتلة، فذاك مما يشعرك بغصة في الحلق ويثقلك بالحزن والإحباط.

وإذا كنت من متابعي الإعلام الرسمي والمخزني المهزول، ستتعاظم غصتك، وأنت تقرأ كثيرا من «الفهلوات» التي ربطتهذا الشجار والنهب والتسابق على الطرقات بحالة «الشعب» –وأي شعب؟ وبفرط أنانيته وجشعه، كأن ثمة سوسيولوجياخاصة نظرت في حالة هذا «الشعب» وحسمت هذا الحكم حسما نهائيا، وقدمته حجة وبرهانا لتدبيج المقالات والتحليلاتوتطعيم التصريحات والحوارات، الخ. بل ستجد، ضمن هذا الركام، من بلغ شأوا أبعد في شيطنة المغاربة، وهو يبرئ ذمةالمسؤولين مما حدث، سواء ليلة الأحد 26 أو يوم الأربعاء 29 يوليوز الماضي أو في غيرهما. ولن تجد، بالطبع، من يطرحالسؤال حول أصول هذه التحولات الخطيرة في السلوك العام. فهل كان المغاربة يأتون فعلا مثل هذا السلوك قبل أربعينسنة؟

دعك من هذا. وعد إلى الوراء بضعة أسابيع، لتفهم بعض الأسباب القريبة والبعيدة خلف «التهمة» الملفقة لعموم المغاربةبعدم الالتزام بإجراءات العزل الصحي. انظر مليا، مثلا، في ما سمي بـ«قانون الكمامة» الذي كاد يعصف بحريةالمغاربة في التعبير الافتراضي، وفي الاختيارات الاستهلاكية. سترى أن الأهداف المتوخاة من محاولة التكميم هذه تفسرمنطلقات ما يحدث حاليا، وما حدث من قبل، وما سيحدث لاحقا. ستجد من ناحية أولى أن هذا «القانون» هوى بما تبقىمن ثقة في الحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية، وباقي المؤسسات السياسية الفاعلة في الشأن العام، إلى الدركالأسفل (وهذا يفسر إلى حد ما سبب الانطباع العام الرائج الذي يفيد بأن شرائح واسعة من المغاربة يشككون في وجودكورونا وهم يطرحون السؤال: «واش عندك شي حد من العائلة مصاب بكورونا؟»). وستجده يجسد، من ناحية ثانية، نزعةهيمنة، هي أميل إلى الاستبداد منه إلى محاولة تنظيم المجال الافتراضي.

كما تعلم، هذا القانون، وغيره من القوانين والقرارات الحكومية، هو حلقة فقط ضمن حلقات سيرورة طويلة الأمد ظهرت،بشكل جلي، منذ الثمانينيات، عندما قبل المغرب تطبيق ما سمي ببرنامج التقويم الهيكلي الذي فرضته الصناديق الماليةالعالمية الكبرى والقوى الاستعمارية القديمةالجديدة. وهو البرنامج الذي أخذ ينزع مكتسبات المغاربة، ويعطيها لقلةمحظوظة من الشركات الإمبريالية الكبرى وبعض أثرياء البلد. تلك المكتسبات التي صنعت وعيهم ومعرفتهم وجزءا منصحتهم وعافيتهم ورفاهيتهم، بل وراحة بالهم. وهكذا، بتنا بلا تعليم جيد، ولا طب نافع، لأن الحكومات المغربية المتعاقبةصدقت فعلا إملاءات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي القائلة إن هذين المجالين يثقلان كاهل كل دولة، وإن تقدمهامشروط بتخلصها منهما. لقد صدقت حكوماتنا، خاصة منذ حكومة التناوب إلى الحكومة الحالية، أن حلم التقدم والنهضةلا تحققه كثرة المدارس، وإنما حركة الخوصصة والإكثار من الشركات والمقاولات التي ظهرت نزعتها الاستغلالية وبانتعيوبها اليوم، وهي ترفض أن تغلق أبوابها، بعدما تحولت إلى بؤر خطيرة، وحولت معها المغرب إلى بلد موبوء، عاجزةمستشفياته عن احتواء كل مرضاه.

ستجد، لو أعملت مبدأ المقارنة، ليس مع الدول المتقدمة، وإنما مع دول عربية وإفريقية مثلنا، أنها احتمت بجبهتي التعليمأولا، والطب ثانيا. لا يخفى عليك، طبعا، أن الأردن، مثلا، نجحت في أن تواجه الوباء وأن تخفف ما نزل بها، بفضل وعيالمواطنين بخطورة الفيروس والتزامهم البيوت شهرا كاملا. كما لا تخفى عليك تجربة كوبا الطويلة والمكينة في مجالالطب.. إذ نجحت هذه الدويلة، التي عانت ويلات الحصار والتحرشات الأمريكية طيلة عقود، في أن تحتوي الفيروس، وأنتقدم مساعدات طبية هائلة لدول أوربية كبيرة مثل إيطاليا. يمكنك هنا أن تقدم لوزراء حكومتك هذه المقارنة، البسيطةوالصارخة في الآن ذاته، بين أمريكا وكوبا، لتذكرهم بأن مواجهة الفيروس لا تكون بالمدرعات والدبابات، وإنما بالقلموالعلم والمعرفة.

سيضيق صدرك بالمقارنات، لأنك ستجد أن بلدك، الذي يتمتع بكل الموارد والخيرات، يتخلف عن بلدان كانت بالأمسالقريب تقبع في ذيل الترتيب العالمي بسبب عوامل بشرية، وأخرى طبيعية، مثل رواندا وإثيوبيا اللتين تشكلان اليوم قوتينإفريقيتين ذاتي وزن اقتصادي كبير. ستجد أن هذا البلد، الذي حبي بالموقع الجغرافي والطاقات الشابة وخيرات طائلةفي الأرض والبحر، ابتلي بنخبة سياسية تابعة لا مبادرة، منفعلة لا فاعلة، متلكئة لا مبدعة، عيبها الشائه يكمن فيانتظارها التعليمات على الدوام. ومن ثمة، ستخلص إلى تلك الأسباب التي جعلته يخطئ الطريق.. هي الأسباب ذاتهاالتي جعلته اليوم يدفع بالجيش، بما يملك من مدرعات، لفرض الالتزام بإجراءات الطوارئ. ستقول: لو اخترنا طريقالتعليم والعلم والمعرفة، لاكتفينا اليوم بخطاب، أو حوار تلفزيوني، أو مقالة فقط في الجريدة، ليلتزم الجميع. لكننا اخترناالطريق الآخر، كطريق «الهروب الكبير» أو طريق نهب الأكباش، وها نحن نتحمل كلفة الجهل والتضبيع.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي