جمال بدومة  يكتب: نيشان!

13 أكتوبر 2020 - 21:10

في مثل هذا الأيام،  قبل عشر سنوات بالتمام والكمال، أرسلت لي الصديقة سناء العاجي “إيسميس” قصير: “نيشان ستُغلق. كان هذا العدد الأخير. أنا حزينة”.

كانت المجلة بالكاد أكملت عامها الرابع، وأصبحت لها قاعدة محترمة من القراء، وسمعة مثيرة للجدل، ومكانة خاصة لدى أصحاب القرار، بفضل ملفاتها المتنوعة، ونبرتها الجريئة، وأسلوبها المتفرد، وأقلامها الواعدة. كنت أعرف أن خريف الصحافة المغربية بدأ، لكنني لم أتوقع أن تتوقف الأسبوعية، التي قاومت أعتى العواصف والمحاكم والغرامات، على ذلك النحو المفاجئ، مستهل أكتوبر 2010. كنا نعتقد أنها ستتجاوز المحنة، كما في كل مرة، لكن الأزمة المالية استفحلت كثيرا، بعدما قرر المعلنون قطع الإشهار على مجلة “سيئة السمعة”، رغم أنها الأولى بالعربية في السوق. دخلت “نيشان” إلى غرفة العناية المركزة، وقرر مالكها أن ينزع عنها أجهزة التنفس، مارس في حقها “القتل الرحيم”. الحقيقة أن استطلاع الرأي حول شعبية الملك، الذي نشرته الأسبوعية، مع شقيقتها الكبرى “تيل كيل” صيف 2009، بالتعاون مع يومية “لوموند”، كان النقطة التي أفاضت الكأس. سبق للمجلة أن احتكت مع السلطة عدة مرات، ونجت من الأسوأ، لكن ما كل مرة تسلم الجرة. من يصنعون الشمس والمطر في مغرب العشرية الأولى من الألفية، كانوا قد أخرجوا جافيل وسانيكروا والكراطات، استعدادا لأكبر “تسييقة” ستعرفها الصحافة المغربية، فقدنا خلالها عددا محترما من الصحف: “لوجورنال”، “الصحيفة”، “الأسبوعية”، “الجريدة الأولى”… و”التسياق” مازال مستمرا، بحثا عن مشهد إعلامي نظيف، لا أثر فيه لأي صوت مزعج. بعد الاستطلاع المشؤوم، صودرت المجلتان وأعرض عنهما المعلنون. كان لا بد من التضحية بواحدة، واختارت المؤسسة التخلي عن البنت الصغرى، “نيشان”. هكذا انتهت إحدى أجرأ المغامرات في تاريخ الصحافة المغربية. ماتت “نيشان”، ومعها سنوات من العمل الصحافي الجميل، توزع بين التحقيقات والملفات والحوارات والأعمدة والافتتاحيات التي لن تتكرر.

أكثر شيء بقي عالقا في ذهني، من تلك الأيام الجميلة،  هي اجتماعات التحرير. صباح الخميس، في التاسعة والنصف. كان النقاش حادا وحماسيا، يعبر فيه الجميع بحرية عن رأيه، وكان اختيار المواضيع يتم بطريقة ديمقراطية، وتقييمها أيضا. الاجتماع يترأسه إدريس كسيكس، مدير النشر، بحضور أحمد بنشمسي وهيئة التحرير في نسختها الأولى: أحمد نجيم ورضوان الرمضاني ولحسن عواد وإسماعيل بلاوعلي وعز الدين الهادف ودلال الصديقي وسناء العاجي وهند عروب… (أين اختفت هند؟) صحافيون من آفاق مختلفة، جمعتهم تجربة استثنائية، مرت سريعا كالسهم، وتفرقت بهم السبل، كل واحد في اتجاه.

“نيشان” تجربة فريدة في المشهد الإعلامي المغربي. في الوقت الذي كانت فيه معظم الجرائد متقدمة في السياسة ومحافظة فيما يتعلق بالثقافة والمجتمع، جعلت المجلة من الجرأة خطا تحريريا في كل القضايا، مع خفة في المعالجة، وروح مرحة بين الصفحات. المقالات تكتب بلغة الناس، في خلطة ناجحة بين الدارجة والعربية. فيسبوك قبل فيسبوك. وراء المجلة كان يقف فريق متكامل من الصحافيين، بفضل عبقرية الكاستينغ الذي أشرف عليه إدريس كسيكس. كان صاحب “علبتي السوداء”، يعطي للجريدة عمقا فكريا وأدبيا، وبنشمسي يتكفل بالغلاف والعناوين والماركوتينغ، نجيم يفتحها على الخفة والحرية، سناء تعطيها جرعات من الجرأة الاجتماعية رفقة قرينتها “الباتول الفضولية”، الرمضاني يضبط الإيقاع السياسي، لحسن عواد يبدع في التحقيقات، إسماعيل بلاوعلي “يقرقب الناب” مع أهم رجال البلاد، عز الدين الهادف يفتح “بولفار” مع الفنانين الشباب، وأحمد العرفاوي يضع لمسته السحرية على الغلاف… خلطة عجيبة، تعطي كل أسبوع طبخة مختلفة، يقبل عليها القراء بنهم.

في البداية، كنا نكتب ما نريد، دون خطوط حمراء، قبل أن تتبدل الوقت، ويضيق هامش الحرية. في دجنبر 2006، انفجرت بين أيدينا أول قنبلة. ملف حول “النكات”، كيف يضحك المغاربة من الجنس والسياسة والدين، كلفنا الإغلاق والمحكمة، وسيلا من التهديدات الإرهابية، وفقدنا إدريس كسكيس، الذي اختار مغادرة السفينة. خسرته الصحافة وربحه الأدب، كما كتبت يومها في أول افتتاحية بعد عودة المجلة إلى الصدور. كنا نشتغل في ظروف مادية جيدة. سوق الصحافة في انتعاش وصنبور الإعلانات لا ينضب. بنشمسي كان يعرف كيف يحفز فريقه كي يقدم أفضل ما لديه. كتبنا عن الإنصاف والمصالحة والجنس والإرهاب والحشيش والهجرة السرية والصحراء والتبرگيگ والمثليين والرعاية الملكية ورمضان… وواكبنا تعيين عباس الفاسي وزيرا أول، ودخول فؤاد عالي الهمة إلى المشهد الحزبي على متن جرار، ميلاد “الأصالة والمعاصرة”، ووفاة “الاتحاد الاشتراكي” في نسخة “القوات الشعبية”…

البعض نزل من السفينة، وصعد إليها آخرون، من بينهم سليمان الريسوني، فك الله سراحه، وظلت روح “نيشان” تسكن الجميع. “نيشان” أول مجلة تراهن على الدارجة كوسيلة للتواصل. صحيفة تشبه عصرها، جاءت وذهبت قبل الأوان. حين شيعناها إلى مثواها الأخير، قبل عشر سنوات، كنا نشيّع فكرة ما عن الصحافة المغربية، كنا ندفن مغربا جميلا حلمنا به، ومات في حادث سير!

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي