محمد جليد يكتب: الدخول الثقافي!

11 نوفمبر 2020 - 18:00

لنتوقف أولا عند هذه العبارة التي تقول إن «القراءة فعل مقاومة». لنتوقف بالأحرى عند صاحبها الذي اقتبسها من كاتب فرنسي -هو الروائي «دانييل بيناك»- من أجل أن تكون شعارا لـ«حملته» الداعية إلى القراءة، بمناسبة انطلاق الدخول الثقافي المفترى عليه. ثم لنتساءل مع صاحبنا هذا: ماذا تقاوم القراءة؟ وهل ينطبق الحال عليه أولا، وعلى شركته العائلية الواسعة.. الواسعة بمداخيلها وثرواتها طبعا، لا بمساهمتها في التنوير وتعميم الثقافة ونشر الوعي ومحاربة الأمية، الخ.

ماذا تقاوم القراءة إذن؟ إنها تسمح بمواجهة العالم، كما قال الكاتب المعروف أمين معلوف. كما أجاب شاعرنا المغربي محمد بنيس، قبل بضع سنوات، عن سؤال مماثل يتعلق بالكتابة، مقدما الجواب ذاته. والكتابة صنو القراءة. أجاب بنيس عن السؤال باستفاضة، أثناء تقديم كتاب جديد له في بهو مسرح محمد الخامس في الرباط، قائلا إنها تواجه الاستبداد والظلم، وتقاوم الجهل والتضليل وتزييف الوعي، وتحارب من يحاربون حرية الرأي والتعبير والفكر والإبداع، كما تقف سدا منيعا ضد ظواهر الابتذال والتفاهة والفساد والخرافة وأشكال الانحراف والانحلال، الخ.

لنسأل صاحبنا -صاحب حملة الدخول الثقافي طبعا- عن موقفه من اعتقالات السنوات الأخيرة وتجاوزاتها المتعسفة. لم نسمع له أي موقف عن الموضوع. وماذا عن انتهاكات الماضي؟ لا قول، ولا رأي طبعا. وإذا تابعنا طرح هذه الأسئلة، فإننا سنجد أنفسنا، في النهاية، أمام رجل بلا مواقف، ولا حتى طرح فكري تجاه القضايا الخطيرة والحساسة في هذا الوطن، وإنما أمام رجل يقف، بصبر وعناد كبيرين، أمام الصرافات التي تبيض الذهب. كان هذا دأبه في مجال كرة القدم، قبل أن يطرده جمهورها شر طردة بسبب تدبيره السيئ وجشعه الكبير في الآن ذاته، قبل أن يتحول إلى عالم الكتاب والنشر، هذا المجال الخصب الذي لا يحاسب عليه أحد، للأسف الشديد!

منذ أن انتقل الرجل إلى مجال الثقافة -النشر تحديدا- لم تنضب قريحته في إيجاد طرق احتلاب ضروعها العديدة. لا يقتصر الأمر فحسب على ضرع الوزارة الذي صار حلوبا قبل بضع سنوات، وإنما كذلك ضروع الولايات والعمالات والأقاليم والسفارات والشركات، الخ. ولأجل ضمان نصيبه من هذا «الكرم الحاتمي»، الذي باتت تغدقه هذه الجهات على بعض من أهلها، صار صاحبنا يتقمص أدوارا عدة؛ فهو ناشر تارة، وفاعل جمعوي تارة ثانية، ونقيب ثالثة، بل ويقدم نفسه للجهات الأجنبية -وللداخلية أيضا- أن «عمله» ليس سوى «دبلوماسية ثقافية» تروم الحفاظ على الصداقات بين الشعوب، والتقريب بين المجتمعات ذات الثقافات المختلفة.

انطلقت هذه الأكذوبة -التي يسميها صاحبنا نقلا عن أصدقائه الفرنسيين بـ«الدخول الثقافي- منذ سنة 2015. قال صاحبنا حينها، في ندوة صحافية جرت داخل أحد الفنادق الفرنسية الفخمة بالدار البيضاء: «أخيرا، صار لنا دخولنا الثقافي!». كادت الأكذوبة تنطلي علينا، لولا متابعتنا لنتائجها الباهتة في عامها الأول. صرنا نتساءل منذ ذلك الحين: ما معنى هذا الكلام؟ هل المقصود به أن دورنا ومؤسساتنا الناشرة ستتنافس في إعلان آخر عناوينها التي يتعدى عددها الألف خلال شهر غشت أو شتنبر؟ هل معناه تباري الكتاب والمبدعين في إعلان أفضل ما لديهم من كتابات؟ هل غايته إعلان مختلف المؤسسات جوائزها الأدبية والفكرية والفنية، الخ، أم إنه مجرد مناسبة عند صاحبنا، وشلته التي تدعمه، لاستدرار مزيد من المال، مثلما هي حاله في مناسبات معارض الدار البيضاء ووجدة والمعارض الأجنبية، وجوائز الدار البيضاء والأطلس الكبير والمامونية، وغيرها؟ لم نجد أجوبة شافية عن هذه الأسئلة منذ ذلك الحين. لم نر في الواقع سوى الإخفاق تلو الآخر. والنتيجة صفر إلى حد الآن. لكن لا أحد بادر إلى محاسبة الرجل، أو أمره على الأقل بأن يلزم حدوده.

لا تليق عبارة «الدخول الثقافي» إلا ببلد تحترم سلطاته الثقافة والمثقفين، وتمجد قوانينه اللغة/اللغات والثقافة الوطنية، ويقدس مواطنوه القراءة والمعرفة والتعلم، ويحرّم مسؤولوه على أنفسهم وجود أمّي بين السكان، ويلتزمون بمحاربة الجهل والتضبيع والخرافة والزيف، ويناضلون في سبيل إشاعة التنوير ونشر المعرفة وبث الوعي بكافة أشكاله. لا تليق هذه العبارة أيضا إلا بدولة تنشئ المعارض والمسارح والمكتبات وقاعات السينما ودور الثقافة في كل مدينة وقرية. على النحو ذاته، لا تليق هذه العبارة إلا ببلد توجد به دور تتحلى بجرأة إصدار كتب وأعمال ذات نفس نقدي لاذع، ومؤسسات شجاعة قادرة على فتح نقاش فكري حقيقي، ومهرجانات طليعية بمقدورها المساهمة في بناء الإنسان وبث الوعي ومحاربة التزييف. كما لا يليق الدخول الثقافي إلا بوطن تحترم حكومته حرية الرأي والفكر والتعبير والإبداع والصحافة، ولا تنتهك حق الإنسان في أن يقول ما يشاء دون أن يخشى المحاكمات والمتابعات والتضييق والسجن، الخ. وأخيرا، لا تليق هذه العبارة إلا بشعب يكون مثقفوه روادا مدافعين عن حقه في التعلم والتثقف، مقاومين لكل أشكال التزوير والتزييف، متصدين لموجة التفاهة والرداءة والابتذال والتشدد والتطرف والغلو… ما لم تكن الغاية رسم أبدية هذا البلد، فإن دخوله الثقافي لن يكون -كما دخوله السياسي والاجتماعي والاقتصادي- سوى مناسبة لإضافة مدخول جديد إلى المداخيل السابقة.

إن أكبر هزيمة لنا اليوم هي تلك التي نتجرعها على أيدي فئة من طينة صاحبنا، ممن لا تصلهم بالثقافة أي صلة، لكنهم يتولون أمورها ويسيرون دواليبها، ويقررون ميزانيتها، ويحددون أنشطتها، ويأمرون بانطلاقها أو توقفها. وما لم يتنحَّ هؤلاء، وتصفو الثقافة لأهلها، لن تصبح القراءة فعل مقاومة أبدا.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي