فاضل العراقي..."أغنى" الصحافة المستقلة فـ"أفقرته"

05 أبريل 2020 - 21:00

في هذه الشهادة التي قدمها الصحافي أبو بكر الجامعي، مؤسس “لوجورنال” الموقوفة عن الصدور، عن صديقه وشريكه فاضل العراقي، في حوار سابق مع الزميل سليمان الريسوني، نتعرف على رجل من طينة خاصة، آمن بأهمية الصحافة المستقلة في بناء مغرب المؤسسات والشفافية والديمقراطية.

الالتحاق بـلوجورنال

“بعد انتخابات نونبر 1997 شكل الحسن الثاني حكومة انتقالية تقنوقراطية كان فيها إدريس جطو ومراد الشريف وإدريس بنهيمة وغيرهم، واستمرت هذه الحكومة في مباشرة مهامها إلى حين مجيء حكومة اليوسفي في فبراير 1998، وكان وكل واحد من هؤلاء الوزراء يدير ويتحكم في عدد من الوزارات، بالإضافة إلى شركات الدولة. في هذا الخضم، قرر بنهيمة ومراد الشريف أن يتكلف المكتب الشريف للفوسفاط والمكتب الوطني للكهرباء ببناء طريق سيّار بين الدار البيضاء والجديدة، بمبرر أن هذه الطريق تحدثُ فيها الكثير من حوادث السير ويموت فيها العديد من عمال المكتب الشريف للفوسفاط والمكتب الوطني للكهرباء، الذين يكونون في طريقهم إلى الجرف الأصفر. ولكن هذا المبرر لم يكن يعطي لبنهيمة ومراد الشريف الحق في التطاول على مهام ليست من اختصاصهما، مثل اتخاذ قرار بناء طريق سيّار. لقد عارضت قرارهما بالرغم من أن عائلتي كانت من ضحايا هذه الطريق، فقد مات فيها خالي الذي كان مهندسا. وإذا كنت قد عارضت ذلك فلأنني اعتبرته قرارا يضرب الديمقراطية”. يحكي أبو بكر الجامعي.

ويضيف الجامعي بأنه حينها قال لي حسن المنصوري، شريكي في “لوجورنال”، إذا اتخذنا مثل هذا الموقف فسوف يخاصمنا مع فئة مهمة من النخبة المغربية، أي مع مهندسي القناطر والطرق، وسوف لن نجد من يعطينا الإشهار؛ كما أن المنصوري كان ضد مجيء جمال براوي إلى “لوجورنال” للعمل معنا؛ وبقينا على هذه الحال إلى أن جاءني يوما وقال لي: أريد أن أغادر الجريدة.

عندما ضاقت بيّ السبل، بدأت أفكر في نوعية هذا المقاول الذي يملك عقلا سليما ليفكر في الاستثمار في الصحافة. وهنا استحضرت أن هناك جناحا من عائلة أمي يملك قليلا من الثروة، فاتصلت بواحد من جيلي في هذه العائلة اسمه زكي موميل، وهو ابن عمة أمي، أخته متزوجة من فاضل العراقي، فقال لي “مشروعك جيد، ولكنني لن أتخذ أي قرار في غياب صهري فاضل”. اتصلنا بفاضل العراقي، الذي فاجأنا حين قام بشيء أريد أن أغتنم هذه الفرصة لأحييه عليه بشدة، بعدما أسيئ إليه كثيرا. عندما جالست فاضل الذي لم تكن لي به سابق معرفة، قلت له إن حسن المنصوري سيبيع أسهمه، وبالمناسبة فحسن المنصوري كان قد قال لي: “أنا مستعد لأن أعطي أسهمي بالمجان لمن سيحرر ضماناتي الموضوعة لدى البنك”، وقال هذا لأننا كنا قد بدأنا في مراكمة الديون، قلت هذا لفاضل العراقي وأضفت أنني لست متفقا على ذلك لأنه بالرغم من أنني تخاصمت مع حسن المنصوري، فلا يمكنني إلا أن أعترف بجميله ومجهوده وحسن تدبيره، لذلك طلبت من فاضل العراقي أن يعوض حسن المنصوري، إذا أمكنه، على القيمة الاسمية لأسهمه، أي مبلغ 590 ألف درهم التي ساهم بها أول مرة، وأضفت قولي: بالرغم من أن حسن المنصوري يعرض عليك أسهمه بالمجان؛ فأجابني فاضل العراقي: لن أعطيه ثمن أسهمه، فحسب، بل سأعطيه أكثر من قيمتها بـ30 في المائة.

وضع فاضل العراقي المبالغ المالية المتفق عليها دون أن يطلب الاطلاع على أي وثيقة، واستمر طيلة مسار الجريدة مغامرا معها؛ وكعقاب له على ذلك، جرت محاصرته في أعماله والتضييق عليه. فهل يوجد مستثمر في المغرب يمكنه أن يدخل معك في جملة من المشاكل هو في غنى عنها؟! فاضل العراقي فعل ذلك. ولأن لا أحد يقوى على توجيهه أو إيقافه، تسببوا له في الكثير من المحن. وشخصيا، أتمنى لكل صحيفة مغربية أن يكون ضمن المساهمين فيها شخص مثل فاضل العراقي.

شاهد صامت

كان فاضل العراقي حاضرا في أهم اللقاءات التي جمعت مسؤولي تحرير “لوجورنال” بشخصيات مغربية وأجنبية وازنة، وشاهدا على ما تعرضت له الجريدة من محن ومضايقات؛ في هذا السياق يحكي أبو بكر الجمعي في الحوار إياه، قائلا: “في يناير 2001، وبالضبط بعد يوم على تسلم الجريدة وصل إيداع “لوجورنال إيبدومادير”، دعاني رجل الأعمال عبدالرحيم الحجوجي، الذي كنت على علاقة جيدة به، للعشاء في بيته. ذهبت رفقة فاضل العراقي وعلي عمار، فوجدنا لديه إدريس جطو، الذي كان يشتغل حينها إلى جانب الملك محمد السادس في مجال المال والأعمال، وكان هو من طلب لقاءنا. اغتنمت فرصة اللقاء لأوضح له، وعبره للمحيط الملكي، عددا من المواقف التي كانوا يعتبرون طريقة معالجتنا الصحافية لها نوعا من التآمر على المغرب؛ فاستعرضت أمامه أسباب دفاعنا عن الضابط مصطفى أديب، وكتاباتنا عن الصحراء، وغيرها من المواضيع. وبعدما استمع إليّ، قال: أنا متفق معك في ما قلته، فأجبته: كيف تكونون متفقين معنا وتتسببون لنا في كل هذه المتاعب؟ فأجاب: تصلنا ملخصات حول بعض مجريات الأمور، ولا يكون لدينا الوقت لقراءتها كلها، وأحيانا لا نقرأ منها إلا العناوين.

حكاية أخرى طريفة، يحكيها أبو بكر الجامعي عن حملة التشهير التي عانت منها “لوجورنال” في سياق التضييق عليها، وكان المرحوم فاضل العراقي شاهدا عليها. يقول الجامعي: “الأمر هنا يتعلق بنكتة تستحق أن تُروى، ذلك أن فاضل العراقي اتصل بي، ذات مرة، عبر الهاتف، وكنت أدرس حينئذ في “بوسطن”، وكانت “لوجورنال” في عز أزمتها المالية؛ وعندما سألته عن الأحوال، أجابني بسخريته المعهودة بأنه توصل بشيك بقيمة 25 مليون درهم (ملياران و500 مليون سنتيم) من طرف “صاحبنا ديال الكولف”، ضحكنا ثم انتقلنا إلى الحديث عن موضوع آخر؛ وبعد حوالي أسبوع تحولت المحادثة الهاتفية بيني وبين فاضل بتفاصيلها إلى مقال في جريدة “لافي إيكونوميك”، وأصبح “صاحبنا ديال الكولف” شيخا من الخليج يقوم بدعمنا بمبالغ مالية من حين إلى آخر بتدخل من مولاي هشام، بل إن صاحب المقال، أو من أملاه عليه، بحث عن قرائن لدعم أطروحته، فقال إن الدليل الذي يؤكد هذا القول هو أن زوجاتنا يملكن سيارات من نوع “كيا”، وبالتالي، فصاحب الشركة هو الذي يمدنا بالمال، والحقيقة أن صاحب “كيا” في المغرب كان صديقا لفاضل العراقي ولم تكن له أي علاقة بالخليج ولا بمولاي هشام.. كل ما في الأمر أن “لوجورنال” كانت تبيعه مساحة دعائية على صفحاتها. وعندما جرى نشر هذه الاتهامات، اتصلت أنا شخصيا بمدير نشر “لافي إيكونوميك”، فاضل أكومي، وبرئيس تحريرها، سعيد بنمنصور، وقد كانا زميلين ليّ في “L’ISCAE”، كما أنهما كانا قد اشتغلا معنا في “لوجورنال”، وقلت لهما إذا عاد ذلك الصحافي إلى الكتابة عن زوجتي أو عائلتي، بناء على معلومات مفبركة بشكل استخباراتي رديء، فسيكون لي رد قاس. بعد ذلك اتصل بي عزيز أخنوش، مالك “لافي إيكونوميك”، ودعاني إلى العشاء معه ثم اعتذر بالنيابة عن كاتب المقال، ووعدني بعدم تكرار ما جرى”.

المرحوم فاضل العراقي كان أيضا، إلى جانب أبو بكر الجامعي وعلي عمار، حاضرا في الوساطة التي قامت بها هذه النواة من “لوجورنال” بين القصر الملكي وصحافي “لوموند” جون بيير تيكوا، لوقف مقال كان سينشر في الجريدة الفرنسية استنادا إلى معلومات زود بها هشام المنظري جون بيير تيكوا. وهي الوساطة التي سيعترف أبو بكر الجامعي، لاحقا، بأن طاقم “لوجورنال” أخطأ عندما قبل القيام بها “لأن ما قمنا به يتجاوز حدودنا كصحافيين، لكن ما يشفع لنا هو أننا كنا ضحية الحماس الذي كان سائدا في تلك المرحلة الانتقالية، ويشفع لنا، أيضا، أننا رفضنا أن نتلقى أي مقابل كيفما كان نوعه من القصر، حتى مصاريف التنقل، بالنسبة إلى علي عمار وفاضل العراقي اللذين سافرا من المغرب إلى باريس وأنا الذي سافرت إليها بدوري قادما من إنجلترا، دفعناها من حسابنا الخاص؛ والأمر الثالث، هو أننا، للأسف، اصطدمنا بالعقلية المخزنية التي تعتبر أن كل من يقوم بعمل مواطن يبحث عن مقابل، إذ لم يعرفوا طينتنا ولم يقدروا أننا قمنا بهذا التدخل لاعتبارات أملاها الانتماء إلى الوطن. وقد أعطى هذا الحادث بداية خاطئة لعلاقتنا بالقصر، حيث إن الشراسة التي سيتعاطى بها محيط الملك لاحقا مع “لوجورنال” كانت مبنية على فرضية أننا كنا معه وانقلبنا عليه”.

العلاقة بالقصر..

لقد أخذت العلاقة بين “لوجورنال” والقصر الملكي منحى آخر بعد هذه الوساطة مع مسؤولي “لوموند”، خصوصا وأن الجريدة كانت تطبع في المطابع الفرنسية، حيث سيقترح الحسن الثاني شراء مطبعة لـ”لوجورنال”، وقد كان المرحوم فاضل العراقي هو أول من سيتصل به القصر ليخبره بذلك. عن ذلك يحكي الجامعي: “مباشرة بعدما تأكد القصر من أن مقال “لوموند” حول هشام المنظري والحسن الثاني لن يُنشر، اتصل فؤاد عالي الهمة بفاضل العراقي قائلا: الحسن الثاني يقول لكم “باراكا من البسالة، أنتم جريدة مغربية يجب أن تُطبع في المغرب”، فكم يكفيكم من مبالغ مالية لاقتناء مطبعة لجريدتكم؟ وأضاف مؤكدا: أنا لا أتحدث باسم “سميت سيدي” (ولي العهد حينها)، بل باسم الحسن الثاني. وبما أن الهمة كان قد سمعنا في إحدى المرات نتحدث عن أنه لاقتناء مطبعة يلزمنا مبلغ 50 مليون درهم، فقد قال لنا سوف أوقع لكم على شيك بـ50 مليون درهم”.

فكيف كان رد المرحوم فاضل العراقي، وهو المساهم الذي يفترض أنه يبحث عن الربح؟ يحكي أبو بكر الجامعي: “فاضل العراقي رفض ذلك فورا، وعندما التقيت أنا بفؤاد عالي الهمة لاحقا في لندن، سألته: لماذا فكرتم في منحنا مبلغ 50 مليون درهم، فأجاب قائلا: لأننا نعتبر أنكم تقدمون خدمة إلى البلد، فأجبته بأننا إذا تسلمنا منكم هذا المبلغ الذي سيمكننا من الحصول على أحسن مطبعة في المغرب، فسيقول الناس إن جرأتنا كانت زائفة ومدفوعة الأجر، وبالتالي، فإنكم ستخسرون الجانب المشرق فينا والذي تعتبرونه مساهمة في خدمة البلد، ثم إن الجيل الجديد من الصحافيين الذي سيأتي من بعدنا سيقول: لا فائدة من بذل مجهود وشجاعة صحافية لأن صحافيي “لوجورنال” لم يكونوا يفعلون ذلك إلا لكونهم كانوا يتوفرون على الحماية والدعم من القصر للكتابة بتلك الجرأة. وأنهيت حديثي معه في هذا الموضوع بالقول: دعمكم لنا هو أن تتركوننا في مواجهة السوق بدون أن تتدخلوا لا لفائدتنا ولا ضدنا، فنحن “قادّين بِشغالنا””. ويضيف الجامعي: “لاحقا قال أحد النافذين في الدولة لفاضل العراقي: يوم رفضتم “الهبة الملكية” حكمتم على أنفسكم بالإعدام، لأنكم لا تعرفون تقاليد دار المخزن”.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي