في ظرفية الحجر الصحي.. لا يمر عقد على رحيل الجابري دون أن يتابع ذكره الآلاف

23 مايو 2020 - 23:00

نظمت مؤسسة عابد الجابري للدراسات ندوة فكرية تخليدا للذكرى العاشرة لرحيل المفكر المغربي محمد عابد الجابري، تم بثها على صفحة المؤسسة مساء الاثنين/الثلاثاء، وقفت عند أهم إسهاماته الفكرية وراهنيتها، وذلك في محاضرة ألقاها محمد الشرقاوي، أستاذ تسوية النزاعات بجامعة جورج ميسن بواشنطن، وخبير سابق لدى هيئة الأمم المتحدة، استعرض فيها أهم القضايا الفكرية التي اعتبرها أساسية في قراءة وتفكيك الواقع الثقافي والسياسي المغربي، وكذا في المنطقة العربية في الوقت الراهن، وهي قضايا العقلانية والحداثة والعلمانية والقطيعة المعرفية والديمقراطية والكتلة التاريخية، كما نظّر لها الجابري وكما تطرح في الواقع الحالي بعد رحيله.

وإذا كانت ظرفية الوباء قد حالت دون أن يجتمع تلامذة الجابري ورفاقه ومجايلوه والباحثون في منتوجه الفكري، في قاعة يتذكرون فيها الفقيد ويتبادلون التحايا بعد عقد من رحليه، فقد جمعت منصات التواصل الاجتماعي آلاف المتابعين لندوة المؤسسة المسماة باسمه. كما مكنت التقنيات الرقمية البعض من المشاركة والتفاعل دون الحاجة إلى مواصلات ولا رحلة مطارات. الإقبال على فكر الراحل الذي لم يرحل من كتب الفلسفة وذاكرة دارسيها ومدرسيها، ولا من الجرائد وقرائها، ولا من أحاديث الرفاق القدامى والباحثين عن فعل سياسي بحبر الفلسفة، يظهر من خلال الندوة أنه يعبر عن حاجة إلى نخبة فكرية وسياسية من طينة وقيمة الجابري بالمغرب.

الجابري.. راهنية فكرية أم « نوستالجيا عاطفية »؟

الندوة الرقمية التي أدارها الإعلامي المغربي عبد الإله منصوري كانت فاتحتها سؤال « اللايقين » في ظل جائحة كورونا، وما فرضته من إشكالات أمام العقل العالمي في مستويات عدة، من العلم إلى السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، فالشرقاوي حاول مقاربة الوضع الحالي بعين جابرية، تفتحص مكامن العطب في منظومة الفكر والسياسة المغربية وكذا العربية، قائلا في مستهل كلامه إن الحاجة إلى الجابري اليوم هي « الحاجة إلى رؤية نقدية في مرحلة يقال عنها إنها خريف فكري بمحاولة تكميم الأفواه وتجويف العقول وخنق النقد الفكري الذي يريده غلبة النقل على العقل »، مشيرا إلى ما سماه « غلبة المطرقة الأمنية » في إدارة الخلاف.

استحضار الجابري ليس « نوستالجيا عاطفية إلى حقبة نبوغ مغربي ولّت، أو مرثية أخرى في رحيل هذا المنظر الذي حمل في قلبه وعقله وجوارحه هما دفينا بسبب تلاحق الهزائم وضياع البوصلة منذ حرب 1967، أو تمطيطا مفتعلا لرؤية التفكيكية أو الوصل عبر الزمان والمكان، بقدر ما هو استحضار تستدعيه طبيعة التحديات الراهنة »، يقول الشرقاوي، مؤكدا أن المراد من استدعائه في هذه الظرفية هو « استعارة منهجيته في البحث والتقويم واستشارة فكره فيما آل إليه مخاض ما سمي بالربيع العربي، وكيف هي أمارات الطريق إلى حداثة سياسية ونهضة فكرية وهوية مجتمعية متصالحة مع ذاتها ومع إرثها ومع عصرها » .

الجابري الذي طرح « عقلنة » التراث في كتابه المعروف « نحن والتراث » يقول عنه الشرقاوي: « إننا نحتاج الآن أكثر من الثمانينيات إلى صيغة علمية متزنة لعقلنة التراث وعقلنة الحداثة في آن واحد، وفصل اللبس عندما يبدو ديمقراطيا في النص أحيانا، لكنه يتحول سلطويا خلال الممارسة وأيضا تفادي الوصل بين تياري الأنسنة والأمننة، هناك الآن تقابل وتبار جديد بين تياري الأنسنة، وما أشد حاجتنا إلى هذه الأنسنة تحت غمامة كورونا، وفي الوقت ذاته نرى أن هناك نوعا من الميول نحو هذه الأمننة والسلطوية الناعمة بشعار مرحلة كورونا.. أخشى ألا تختلط الأمور وألا تركب الأمننة على الأنسنة في هذا الواقع العربي، سواء في مرحلة كورونا وما بعدها ».

يستعير الشرقاوي قول الجابري: « لا بد من سلاح النقد لكن لا بد في الوقت ذاته من نقد السلاح »، مضيفا أن « سلاح النقد تمدنا به الفلسفة، أما نقد السلاح فيمدنا به التاريخ ولا بد من الفلسفة والتاريخ »، وهي إشكالية لازالت قائمة في نظر الشرقاوي في مسار « محاولة حسم المعركة بين النقل والعقل، ومحاولة الوقوف دون مركب نقص أو خنوع أمام الأمم المتقدمة »، ملحا على الحاجة إلى الجابري لتمحيص جدلية التراث والحداثة وكيف يمكن أن تتم المصالحة بين « العقلانية والتقليدانية، وأيضا ترميم الطريق أمام التغيير والابتكار العربي فكريا وتنمويا »، مستحضرا قول الجابري: « يشعر الواحد منا، نحن المثقفين العرب، أن التراث العربي بمضامينه ومشاكله الفكرية في واد والعصر الحاضر وحاجاته في واد آخر ».

الجابري من زناكة إلى مكتبة الكونغرس

يستعرض الشرقاوي مسار الجابري الدراسي والمهني، بدءا من ذلك الطفل القادم متأخرا إلى فصول الدراسة من قلعة زناكة في مدينة فكيك الصغيرة في المغرب العميق، وحصوله على الشهادة الابتدائية من المدرسة المحمدية عام 1949، ثم « صموده أمام البنية الاقتصادية والبيروقراطية التي عايشها » طالبا ومعلما ثم أستاذا وأيضا مفتشا للتربية الوطنية، قبل أن يحصل على أول دكتوراه في تاريخ الفلسفة بالمغرب في سبعينيات القرن الماضي، يقول الشرقاوي إنه الباحث الذي اتسع له فيما بعد « صدر المجلس في أبرز المنتديات الفكرية والأكاديمية في المغرب والمشرق »، وإنه سعى إلى فهم بيئته قبل أن يسعى إلى تبيئة مفاهيم حداثية أوروبية، وإنه ليس مثقفا عضويا فحسب، ولكنه أيضا مثقف مرن في وعيه ولغته وحركته بين المغرب العلوي والمغرب السفلي، دون أن يتنكر لواقعه وأصدقائه في أيامه الأولى.

« ثمة مشهد حي في ذاكرتي عندما التقيت الجابري في ندوة استضافتها مكتبة الكونغرس في واشنطن عام 1996، حيث دار بيننا حوار مطول، كان ذلك بعد أيام من مشاركته في ندوة نظمتها جامعة ييل لمناقشة أطروحة صاموييل هنتغتون بعد أشهر قليلة من صدور كتابه المثير للجدل: « صدام الحضارات وإعادة تركيب النظام العالمي »، كان الجابري المدعو الوحيد من العالم العربي بين 25 من مثقفي العالم من مختلف القارات، وأعتقد أن هذه لحظة مهمة ينبغي استحضارها، أن يكون ممثل الفكر العربي والفكر الإسلامي من المحيط إلى الخليج في هذه المناسبة، هذا أمر لو كان لنا كباحثين أن نكتشفه إنجليزيا أو أنكلوساكسونيا ربما كان يتربع مكانة عربية أكثر من حظوته بيننا كباحثين عرب أو عرب أمريكيين أو عرب أوروبيين »، يقول الشرقاوي معتبرا أن الجابري يجمع في بعده « الأفقي بين ثلاثة عناصر حيوية تؤكد مكانته الفكرية ودروه السياسي، وتفتح له مكانا متميزا بين النخبة، من خلال الجمع بين الإعلام والنشاط الأكاديمي والتنظير السياسي، مشيرا إلى أنه من بين الأقلام الصحافية التي جمعت مجد الكتابة بين العلم والتحرير والمحرر والاتحاد الاشتراكي، فضلا عن صفحات مجلات مغربية وعربية أخرى، بعد أن توسم فيه الراحل المهدي بن بركة نجابة الرأي ورصانة القلم، فأصبح له جمهور قراء ومتحمسين لرؤى جديدة ».

وأوضح الشرقاوي أنه يعمل في مجال الصراعات والأزمات ومرجعية الفلسفة السياسية، ولا يعتقد أن التصنيفات المتداولة عن ثنائية الجابري المفكر والجابري السياسي منصفة، بل « يجد أربعة أضلاع متماسكة حقّقت له التوازن والثبات وفق قانون الجاذبية: الجابري المفكر، والجابري الناقد، والجابري المنظر السياسي، والجابري الأخلاقي الملتزم، أو ما يصفه بعض مجايليه الصرامة الأخلاقية »، وذكر الشرقاوي أنه يشارك في مشروع كتاب سيصدر باللغة الإنجليزية عن أعلام الفكر السياسي في المغرب المعاصر، وسيكون له « شرف كتابة فصل كامل عن محمد عابد الجابري: الرجل والمفكر والسياسي ومكانته الحقيقية في الشرق والغرب ».

العقلانية الجابرية

وقفت الندوة عند سؤال العقلانية لدى الجابري من خلال منجزه الفكري « نقد العقل العربي »، وهو المؤلف الأكثر شيوعا في العالم العربي، ويذكر القارئ بالكتاب الفلسفي لإمانويل كانط « نقد العقل المحض ». « العقلانية تمثل أهم حصيلة فكرية للجابري وهي تمثل مدى تشبعه بالنظرية النقدية، فقد كان تشبع بمجموعة من الكتاب العرب الذين حاولوا أن يؤسسوا لهذه العقلانية العربية الإسلامية، سواء عند ابن رشد أو عند الفارابي أو النقاش الشهير حول دور الفلسفة وعلاقتها بالعقلانية ضمن « تهافت التهافت » عند ابن رشد و »تهافت الفلاسفة » عند الغزالي »، مضيفا أن هذه العقلانية هي رد ضمني على ما اعتبره الجابري « لا عقلانية الخطاب في مشروع النهضة العربية أوائل القرن العشرين »، فقد كان الجابري في نظر الشرقاوي « يحاول أن يخرج السلفيين والأصوليين والكثير من هؤلاء الذين يحتمون بالماضي إلى شرفة العقل الحر »، محاولا « غربلة » التراث وعقلنته، وهو « فخور به لكونه عنصرا أساسيا في الذات العربية أمام الأنساق الفكرية الأخرى في الشرق والغرب، ولا يتخوف أن تصل هذه العقلانية إلى مستوى تنظيف الطاولة ».

الحداثة والتراث

مفهوم الحداثة من المفاهيم الإشكالية في فكر الجابري من حيث علاقته بالتراث بين الفصل والوصل، وقد لخص الشرقاوي منظور الجابري بالقول إنه « لا يعادي الحداثة ولا يتعبد في محراب التراث »، قائلا عن الراحل إنه حاول التقليل من تضخم الأنا الثقافي والديني لدى التراثيين، وأيضا حاول تقليص تضخم الأنا عند التيار القومي وعند الناصريين والبعثيين، كما حرص على عدم الانفتاح على الحداثة الغربية، وهي « مصابة بتضخم الأنا كذلك »، معتبرا أن الحداثة هي مشروع متواتر ينتقل من حضارة إلى أخرى ومن جغرافيا إلى أخرى.

« تحضر فكرة الحداثة عند الجابري عندما يربط جدلية التفاعل بين المؤسسات الرسمية وبين المعارضة، خاصة اليسار وبين مجتمع المدن كناية عن المجتمع المدني، وهي الأرجل الثلاثة التي تمشي عليها الحداثة في الغرب، وفي نفس الوقت لا تستطيع أي مؤسسة من هذه المؤسسات الثلاث ادعاء إمكانية الاستغناء عن الأخرى »، يقول الشرقاوي .

الديمقراطية و »القبلية السياسية »

الديمقراطية مفهوم ظل مستعصيا في نظر الشرقاوي لعدة أسباب، من ضمنها غياب المؤسسات التي تساعد للوصول إلى مرحلة البناء الديمقراطي، مشيرا إلى أنه خلال « انتفاضات 2011، شاهدنا هرولة أغلبية الدول إلى عملية الانتخابات، واكتشفنا فيما بعد أنه حتى التمثيل في صناديق الاقتراع لم تصل نسبة الإقبال عليه أكثر من 18 في المائة بليبيا مثلا »، معتبرا أن الانتخابات من الأدوات الديمقراطية التي تم اقتباسها دون النجاح في « تبيئتها » بنفس الطريقة التي حدثت لدى الشعوب المتشبعة بمسارات التحول الديمقراطي، و »لازلنا بين مؤسسات تقليدية بأختام سلطانية وأيضا مؤسسات على الطراز الغربي (أحزاب وبرلمانات)، لازلنا انفصاميين. لازلنا في أسئلة هل الشورى نظام ديمقراطي وهل الإسلام يتوافق مع الديمقراطية؟ ». والجابري في نظر المحلل حل معادلة الوصل بين هذه التمثلات الثقافية على مستوى التمثيلية السياسية، وأن الديمقراطية في رأيه تنطوي على القبول بالتعددية، وهي تعني الاعتراف المتبادل بين كل ألوان الطيف السياسي والثقافي في أي بلد كان، غير أنه « لازالت لدينا قبلية سياسية، بل بعد سنة 2011 هناك بعض الدول العربية عادت إلى جاهلية سياسية، بسبب التعصب الأعمى والانقضاض على القرار وتجاوز الدبلوماسية الدولية »، يقول الشرقاوي .

« احتراس » من مفهوم العلمانية

الجابري كان يحترس من مفهوم العلمانية خاصة في سياقها الأوروبي، وكان له هاجس أن الكثير من العلمانيين والليبراليين العرب يريدون استنساخ هذا النموذج دون تبيئته أو دون مراعاة الظروف المحلية، كان يؤمن أنه لا يمكن تطبيق العلمانية بهذا الشكل كما يفهمه البعض، بمعنى القطيعة أو الانفصال بين الدولة والدين، وأن العلمانية هي الصيغة الصارمة في استبعاد كل ما هو ديني عن الحياة السياسية، بهذه الصيغة يفسر الشرقاوي رؤيته للفهم الجابري للعلمانية بكون الفرق بين أوروبا والمنطقة العربية يكمن في أن الأوروبيين استطاعوا أن ينظموا العلاقة بين الكنيسة والدولة، فحتى في الولايات المتحدة الأمريكية تتكرر عبارة: « الله يحفظ أمريكا » في خطابات رؤساء دولها، وليست هناك قطيعة حتى في عقر الدول التي تعتبر علمانية، بل هناك فقط تنظيم للعلاقة، يورد الشرقاوي مؤكدا أن العلمانية تظل مشكلة شائكة ولا يمكن « التسرع في تبيئتها »، وهي « آخر التحديات الآن »، مشددا على أن الجابري يجد مخرجا لهذه الإشكالية عندما ينادي بالتعددية والتعايش بين كل التيارات بمنطق التوافق وليس الإقصاء.

في الحاجة إلى كتلة تاريخية

« الكتلة التاريخية » مفهوم تم استلهامه من المفكر الإيطالي غرامشي، والجابري كان يحاول أن يرسي الكتلة التاريخية كـ »مشروع يتجاوز الحدود الإيديولوجية، كان يعتقد في إمكانية رص الصفوف على امتداد الدول العربية، على أساس أن المرحة تتشابه وهي مرحلة الخروج من الاستعمار، كما تتشابه الظروف الاقتصادية والتحديات والعلاقة مع الغرب »، يقول الشرقاوي، فإلى جانب العقلانية والحداثة، أصبحت الكتلة التاريخية تفرض نفسها في نظره وكذا البحث عن كتلة تاريخية بمفهومها الإنساني وغير المسيس، عبر استعادة دور المثقفين الذي تقتضيه مرحلة كورونا، معتبرا أن الكتلة يمكن أن تعيد الاعتبار للمثقفين وللعلاقة بين رجل السلطة ورجل الفكر. « هناك إرهاق سياسي، والتيارات ذات النفوذ في المنطقة العربية أصبحت في مرحلة إرهاق، وكذلك الأحزاب اليسارية فهي الآن مدجنة أو تابعة أكثر مما هي ذات استقلالية »، وتبقى الحاجة إلى كتلة تاريخية تشمل كل المثقفين، وتكون بمثابة « نخبة النخب »، حاجة ملحة في نظر الشرقاوي تسهم في الأجوبة عن أزمة كورونا.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي