الكاتب والناقد خالد زكري: نعيش في مجتمعات لا يتداول فيها الكلام بحرية- حوار

05 سبتمبر 2020 - 13:20

حاوره- م. جليد/م. حجي م

هل ترى أن المجتمعات العربية قادرة على بناء حداثتها على النسق الغربي، باعتبارها قطيعة مع كل الأنماط التقليدية؟ أم أنها ملزمة بالتوفيق بين الماضي المحمل بالروحانيات والوجدانيات، والحاضر الذي يفرض ضرورة الانغمار في العقلين الفلسفي والتقني؟

*** الفكرة القائلة إن الحداثة تمثل قطيعة مع العالم التقليدي، هي فكرة طالما دافع عنها بعض أنصار الحداثة، الذين يعلقون أهمية جذرية على فكرة التقدم. ومع ذلك، فقد أظهرت أسطورة التقدم، باعتباره قطيعة مع الماضي، حدودها عبر التاريخ.

إن البذور الأولى لهذا التساؤل قد وجدت في عصر الأنوار عند مناهضي الحداثة، وبعد ذلك في فلسفة نيتشه (وهم ليسوا كلهم بالطبع رجعيين). تعيد فلسفة الشك، التي كانت منتشرة، إلى حد ما، منذ النصف الثاني من القرن العشرين، النظر بشكل جذري في فكرة الحداثة المؤسسة على أسطورة التقدم والارتقاء.

لذا، لا يمكن تصور الحداثة خارج الحوار مع الماضي والتقاليد. إذ إن الثقافة لا تأتي من عدم؛ وإنما لها تاريخ لا بد من أخذه في الاعتبار حتى تتمكن من ابتكار أساليب جديدة للوجود في العالم. أما فيما يتعلق بالعالم العربي الإسلامي، فقد عرف مقاومة شديدة للإبداع والابتكارات والتغييرات في مجتمعاته. ولا بد من القول بوضوح إن القوانين الدينية قد أسهمت في هذه المقاومة مادامت تهيكل بنيات الحياة اليومية للأفراد بوعي وبغير وعي، على حد سواء. ولمواجهة وضع كهذا، لا يبدو لي أنه من المناسب نسخ نموذج الحداثة الغربية لدمج العناصر المهمة التي تمكنت من إنشائها للسماح للإنسان بالاستقلال بذاته، وبناء مجتمع بقواعد وقوانين مستمدة من الأفراد الذين يؤلفونه.

لقد اكتشفت الدول العربية الحداثة بطريقة مختلفة عن العالم الغربي. ورغم تشبث هذه الدول بخصوصياتها الثقافية والإمكانيات التي يوفرها العالم الحديث في الآن عينه، فإنها لم تنجح، مع ذلك، في مفصلة هذه الرغبة المزدوجة. إن التفكير في حداثة المجتمعات العربية من حيث ملاءمتها للحداثة الغربية أو عدم ملاءمتها لها هو خطأ في شأن الحقائق الثقافية لهذه المجتمعات؛ حيث لا تتعارض الروحانيات مع العقل، وإنما يكمل كل منهما الآخر شريطة أن تنبثق القوانين المنظمة للمجتمع من الأفراد الذين يشكلونه. فالعقلانية غير كافية ليصبح المجتمع حداثيا. لقد بين أدورنو وهوركهايمر أن العقل يتحول إلى عقلانية باردة وقاتلة، حين يمنحه المرء سلطة مطلقة.

بأي معنى يمكن اعتبار نزعة المحاكاة التي تقوم عليها الحداثات العربية عاملا مشوشا على علاقة المجتمعات العربية بالحداثات الغربية؟

*** إن نزعة المحاكاة باعتبارها أمرا ثابتا في العالم العربي تحجب عنا الوصول إلى الواقع. فنحن لا نعيش في مجتمعات يروج فيها الكلام بحرية، رغم ما يفترضه مفهوم الحرية من نسبية. تبني الخطابات الرسمية واقعا لا يرتبط في الغالب بالحياة اليومية للأفراد. ونتيجة لذلك، يعيش المجتمع واقعه الخاص وتنتج سلطة الدولة واقعها « المصطنع » وفق معايير أمنية أساسا. لذا، هناك عالمان متوازيان.

يقوم حكامنا بنقل الإصلاحات والخطابات الغربية بطريقة خرقاء (في حالة المغرب، يتعلق الأمر أساسا بتقليد باهت وبعيد كل البعد عن القرارات الفرنسية). إن الهوة التي تفصل « المؤسسات التمثيلية » للسكان المفترض أنها تمثلهم تزداد عمقا أكثر، وتؤدي إلى ظهور مجتمعين منفصلين.

جزء لا يستهان به من النخبة المثقفة (ثمة استثناءات نادرة بالطبع) يفكر هو نفسه بأسلوب المحاكاة، ويفكر في الحداثة بنفس البراديغمات الغربية. ومع ذلك، فالسياق التاريخي والأنثروبولوجي ليس هو نفسه.

يمكن للمرء طبعا إقامة حوار مع الفكر العالمي والاستفادة منه، ولكن من خلال مراعاة عالمنا الثقافي. لقد وضع الفيلسوف كانط فكرة الاستقلالية في صميم فلسفة الأنوار، والاستقلالية هنا عنصر مهم في الحداثة، ويمكن تناولها ثانية من خلال مساءلتها انطلاقا من تقاليدنا الثقافية. لا تتعارض مسألة الاستقلالية الذاتية بالضرورة مع البعد الروحي الذي يهيكل ثقافتنا. إن حداثتنا « انفكاكية » وتستلزم تحليلا وفقا لبرديغمات أخرى غير تلك التي اعتدنا عليها.

توج كتابك « حداثات عربية » السنة الماضية بجائزة المغرب للكتاب، في صنف العلوم الإنسانية. ما الذي يضيفه هذا العمل إلى المشاريع الفكرية المغربية، التي أرساها كل من محمد عابد الجابري وعبدالله العروي ومحمد سبيلا ومحمد الشيخ وغيرهم، في مجال الحداثة؟

*** في الحقيقة تشرفت كثيرا بهذا التتويج. وأعتقد أن الحكم متروك للقراء ليقولوا ما إن كان الكتاب قد أتى بجديد أم لا. على أي حال، لو لم تكن الأسماء التي ذكرتموها موجودة، ما كان بإمكان هذا الكتاب أن يكتب. لقد جعلت أعمال هؤلاء المفكرين مثل هذا العمل ممكنا؛ لأن تحليلاتهم غدت تفكيري ولفتت انتباهي إلى الظواهر التي تهم تاريخنا وثقافتنا.

فنحن لا نفكر أبدا انطلاقا من فراغ، وإنما نندرج دائما ضمن استمرارية قد تكون نقدية، لكنها تظل مع ذلك ممتنة لأولئك الذين سبقونا. كان لمفكري الهند، أيضا، أهمية في تكويني الفكري. أعتقد أنني دمجت فكرة التناقض الثقافي كعنصر من عناصر حداثتنا ساعيا إلى تجاوز التناقضات الموجودة في الباراديغم الغربي.

بهذا المعنى يجب أن نتمثل مفهوم الحداثة الانفكاكية، دون إنكارنا لعلاقتها بالحداثة الغربية. تدمج الحداثة الانفكاكية أنماطا مختلفة للحياة والتعبير النابعة من مصدر غربي فائق. إنها انفكاكية لأنها تعمل عن طريق الاستئصال والانفصال. وهي ليست تكرارا صارما للتقاليد العربية الإسلامية، ولا هي مطابقة كليا مع الحداثة الغربية.

تشير في كتابك « حداثات عربية، من الحداثة إلى العولمة » إلى أهمية النموذج الحداثي التركي وتأثيره النسبي في العالم العربي. في رأيك، أين تتجلى نسبية هذا التأثير؟

*** كان للمسلسلات التلفزيونية والأفلام التركية (المسلسل التاريخي « حريم السلطان » هو أكثرها رمزية) تأثير لا يمكن إنكاره على الجمهور العربي، وذلك ابتداء من العقد الأول من القرن الحالي. في هذه المسلسلات، يحتل الحب والمال والسلطة والأزمات الاجتماعية والمشاعر الحزينة مكانا مهما. كما يتم التعامل فيها مع النضال النسائي وفق نمط شعبي وأخلاقي. لا تهتم هذه المسلسلات بدفع المشاهد إلى التفكير، وإنما تهتم بتغيير سلوكه من خلال التأثير في مشاعره.

وفضلا عن هذه المسلسلات التلفزيونية، هناك، أيضا، منتجات الديكور والأثاث المنزلية المرغوب فيها أيضا؛ لأنها تبدو مغرية في هذه المنتجات الفيلمية. أصبح، كذلك، السفر إلى تركيا في متناول الطبقة « الوسطى » (على الرغم من صعوبة تطبيق هذا المفهوم على المجتمعات العربية). وبالنسبة إلى المغاربة، فإن إعفاءهم من تأشيرة الدخول إلى تركيا جعل الأمر أكثر سهولة. كل هذا يسهل التماهي والانبهار بالنموذج الذي تمثله تركيا. إنه نموذج عرف كيف يجمع، بشكل أو بآخر، بين التقليد والحداثة، والإسلام والحداثة، والعلم والدين…

ألا ترى أن معضلة الحداثة في العالم العربي تكمن أساسا في قبول السلطات الحاكمة بشقها التقني/ الأداتي/ النفعي ورفض شقها الفكري الذي يروم تعميم التنوير والتعليم وتشجيع التفكير والنقد والإبداع الأدبي والفني؟

*** لا شك أن النخبة الحاكمة قد فضلت باستمرار التكنوقراطية الحديثة على الثقافة الحديثة. وهنا أيضا يتعلق الأمر، مرة أخرى، بتكنوقراطية التقليد التي لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تؤتي ثمارها. إن العالم العربي فضاء للاستهلاك، وليس فضاء للإنتاج الصناعي أو التكنولوجي. لقد قامت الصين وغيرها من الدول الآسيوية، التي لها خبرة طويلة في اقتصاد الفقر، بحل الصراع الطبقي بشكل مصطنع من خلال توزيع المنتجات المقلدة والمغشوشة في السوق العالمية (وهذا ما يسمى في المغرب « إيميطاسيون »).

وتتعرض هذه المنتجات في البلدان المتقدمة لعقوبات صارمة كي لا تنافس المنتجات الأصلية. ومع ذلك، تشكل هذه المنتجات المقلدة في بلد مثل المغرب، حلا للسلم الاجتماعي ووهما للارتقاء الاجتماعي. يشعر من يشتري منتجا « مقلدا » أنه لم يعد مقصيا من العلامات التجارية الكبرى. فهو يشتري بسعر منخفض منتجا لم يكن ليحصل عليه أبدا لولا وجود المنتجات المزيفة.

وهذه الوضعية تحجب الصراع الطبقي مؤقتا. إن الأشياء التي تبدو لنا اقتصادية محضة غالبا ما تخفي بعدا إيديولوجيا، الهدف منه هو إخضاع الأفراد لمنطق السوق والاستهلاك وذلك بمحض « إرادتهم ». إنها بطبيعة الحال إرادة وهمية ومفبركة.

بالنظر إلى المعضلات التي يطرحها التراث على أسئلة التحديث، هل ترى أن العالم العربي قادر على اختراع حداثته، كما فعلت مجتمعات آسيا الشرقية؟

*** يقترح كتابي فكرة مفادها أن الأفراد الذين يشكلون المجتمعات العربية إنما يعيشون حداثة انفكاكية. غير أن مؤسسات الدولة لا تعترف بالبعد الهجين لهذه الحداثة المرتبطة بتقاليدنا الثقافية وماضينا الاستعماري في الوقت عينه.

إن التحرر من أعباء التقاليد ومخلفات الاستعمار ينطوي على نقد للسلبية الجينالوجية والسلبية الإمبريالية على حد سواء. ومن هنا تأتي الحاجة إلى « تدبير » سياسي للتناقضات والصراعات التي تهيكل المخيال الجماعي للمجتمعات العربية المعاصرة.

لا يشترك هذا المخيال في المقدس والمدنس، على سبيل المثال، علما أن هذه المشاركة لم تخضع إلا لتحليل عارض من قبل المفكرين في العالم العربي. إن الاستمرار في تجاهل أهمية هذه النقطة الأساسية للثقافة، هو رفض إقامة قطيعة مع بعض العناصر السلبية للتقاليد. والحال أن هذا التحليل شرط ضروري لبناء أشكال جديدة من الحياة. لذا يظل هذا المسار، مع كل ما ينطوي عليه من توترات، الإمكانية الأكثر بناءً للحداثة العربية.

من غير المقبول أن ندير ظهرنا للماضي، إذ من الواضح أن هذا الأمر مستحيل، إن لم يكن مضرا. لكن أن يغرق المرء في ليلة الحنين إلى الماضي هو شيء سلبي؛ لأن الرغبة في ما لا رجعة فيه، تحجب دائما ابتكار المستقبل. لكن من غير المعقول، أيضا، أن يلتفت المرء نحو المستقبل من دون أن تكون لديه أحداث ماضيه في الذاكرة.

سؤال أخير، كيف تنظر إلى حالة الطوارئ الصحية الراهنة؟

*** كشف كوفيد ــــ 19 ما كان مخبأ بشكل طفيف تحت البرنيق: الهشاشة الاقتصادية، والوضع الكارثي لقطاعات الصحة ونظام التعليم، وأوجه ضعف الاقتصاد غير المهيكل، وعدم كفاءة بعض الإدارات. ناهيك عن بعض العاملين في المقاطعات والعمالات- سامحهم الله- والذين وجدوا في حالة الطوارئ الصحية ذريعة للتهرب من القيام بواجبهم والتضييق على الراغبين في الحصول على رخصة السفر الاستثنائية للتنقل بين المدن.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

الحسن لشهاب/المغرب منذ 3 سنوات

في راي يمكن للحداثة العربية الاستعانة بتجربة الحداثة الغربية ،لكن لا ينبغي استنساخها حرفيا،حيث يظهر ان للحداثة الغربية سلبيات جد وخيمة على مستوى حقوق الانسان العربي ،الثقافية و السياسية و الاقتصادية ،من خلال ما خلفه الاستعمار الغربي ،الذي لازال يتحكم في وضع و اختيار الخرائط السياسية العربية، و يتحكم في اختيار و حماية العملاء العرب المستبدين السياسيين و الدينيين ،على حساب كرامة الشعوب العربية ،كما للحداثة الغربية سلبيات اجتماعية على صعيدها الوطني، تظهر جليا في الصراعات القائمة بين الباترونا و السياسي و رجل الدين الغربي ،الناتجة عن سوء استغلال الجالية المسلمة عموما ،حيث افرزت احزاب سياسية غربية لا وطنية ،كما افرزت انشقاقات قومية اوروبية ،متمثلة في خروج ابريطانيا عن التحاد الاوروبي،رفض الاحاد الاوروبي للقرارات الامريكية،الازمات الاقتصادية و الصحية، و هذا ان ذل على شيئ فانما يذل على انه ينبغي للحدثة العربية ان تكون جد حريصة في اقتباسها من تجربة الحداثة الغربية ،كالتناوب السياسي ،و وضع سقف زمني للحكامة امام الاحزاب السياسية ،سواء كانت دينية او علمانية ،او مؤسساتية، و التخلص نهائيا من ظاهرة التويرث السياسي و الخلافة الدينية، و عدم التدخل في شؤون الدول الاجنبية و العربية، كما تفعلا تركبا و ايران في شؤون العرب ،و مكا يفعل الغرب المنافق,,,

التالي