منير أبو المعالي يكتب: موت مضلل

17 سبتمبر 2020 - 18:00

يهلك ثلاثون مواطنا كل يوم، ومنذ حوالي شهرين، بسبب الإصابة بفيروس كوفيد-19. ليست هناك هويات مكشوفة، ولا صور، ولا جنائز. مجرد رقم يُرمى بكل برودة في نشرة تُعدها وزارة الصحة وكأنها نشرة مكتوبة بشأن أحوال الطقس. والطقس قد تغير بالفعل. وما كان، حتى وقت قريب، مثيرا للهلع كما الشفقة، بات الآن متواريا خلف أولويات يومية أكثر إلحاحا. يتغير الطقس اليومي وفقا لما يراد له أن يصبح الوجبة الرئيسة للمناقشات العامة. هل يخفي ذلك سعيا ما إلى التلاعب بالعقول؟ كان بيير بورديو، وهو عالم اجتماع فرنسي بارز، قد شرح الكيفية التي يتحول بها ما هو ثانوي إلى موضوع رئيس. ويصلح تحليله لتفسير كل شيء يتعلق بالإيديولوجيا الناعمة، حيث يصبح للشبكات الاجتماعية والتلفزيون كذلك دور في تشكيل ما هو مهم بالنسبة للناس. تبعا لذلك، من الواضح أن لمقدمي البرامج على التلفزيون، وحتى الإذاعات، دورا هائلا داخل الشبكات الاجتماعية في هذه الأثناء.

وإذا كان للصحافيين من دور، فهو، دون شك، أن يضللوا العامة بشأن الطريقة التي يجب أن يختاروا بها أولوياتهم في هذه البلاد. وإذا ظهر أن هناك صحافيين لا يخضعون لهذا الشرط، فإن الجماعة الأخرى سرعان ما تسعى إلى تصويرهم كأشخاص غير مسؤولين. ولسوف يحدث ذلك بوضوح في المناقشات الحادة حول أولويات الناس في خضم الأوضاع المستجدة بسبب الجائحة. لقد قرر مقدمو البرامج، سواء في أعمالهم الروتينية بمكاتبهم، أو من خلال نشاطهم على الشبكات الاجتماعية، أن يدفعوا الناس إلى الاعتقاد بصواب الإجراءات التي تتبعها السلطات. لقد دعوا، دون أي حرج، إلى مزيد من الطاعة لرجال السلطة الذين كانوا يستعملون القوة بإفراط ضدهم. في كثير من الأحيان، جرى وصف صفع رجال سلطة لمواطنين مخالفين لقيود الحجر الصحي بأنه ضروري لنجاة الباقين. ولسوف يستمر دعم هذه التصرفات على الشبكات الاجتماعية، دونما أي تأثير على الأرض. في الواقع، وكما قيلت العبارة وهي مغلفة بالمفردات المنمقة، فإن لا أحد قد ينجو رغم كل تلك القسوة في بادئ الأمر.

وحتى لو لم ينجح هؤلاء جميعا، وهم مسنودون بأشخاص أكاديميين مشكوك في كفاءتهم على كل حال، يُستضافون باستمرار في التلفزيون لدعم كل شيء يتعلق بفرض اختيار محدد على المواطنين، فإنهم لم يشعروا بالإرهاق، لكن، على ما يبدو، فإن السلطات نفسها، التي يدعمونها، هي من شعرت بالفتور.

كانت قائمة الطعام، كما تقدم بين الفينة والأخرى في تلك المرحلة المثقلة بالمخاوف، تتغير باستمرار. كان المعلقون على التلفزيون، كما في الإذاعات أو على الشبكات الاجتماعية، يتعاملون مع المتغيرات وكأنها قد فُرضت عليهم فجأة. ومن الكياسة أن نشهد لهم بأنهم قد نجحوا في التأقلم مع كل تغيير في مسار الريح دون الشعور بأي وخز من ضمير. في حقيقة الأمر، من الصعب كذلك القول إن أغلب أولئك لديهم ضمير. كما يحدث للسياسيين المنتفعين، يتحول موت الضمير إلى ميزة.

تُقدم قصص الموت عادة تلخيصا مذهلا لما تعنيه الحياة، وهي، بشكل عاطفي، توقظ الضمائر. لكن ليس هناك هدف من تعقب قصص الموت بسبب الجائحة. وبشكل أدق؛ ليس هناك ربح. تعمل السلطات الصحية، بشكل نشط، على تغطية كل أعمالها في جدول ملون ينقل أرقاما لا تنطوي على أي هدف. هذه السلطات نفسها هي من عملت، ولشهور طويلة، على زرع آمال زائفة في عقول الناس. إذا كان هناك من شيء يجب فحصه فهو عبارة «البروتوكول» كما سُوقت بخداع. أصبحت هذه الكلمة ذائعة الصيت، وتستعمل في أي سياق. المرضى وحدهم، الذين يلقى بهم دون اكتراث في مستشفيات عديمة الكفاءة، سيكتشفون خلوها من أي مضمون. في غضون ذلك، طرحت وزارة الصحة باستمرار، ومنذ شهر مارس الفائت، مناقصات لتوريد كميات هائلة من التقنيات كما من وسائل الفحص. سيتحول، كذلك، أرباب مختبرات إلى رجال أغنياء أكثر مما هم عليه، فقد منحتهم وزارة الصحة بطاقة الاعتماد. الدولة لم تعد قادرة على تحمل كلفة فحص المرضى. يمكن تفهم ذلك بقدر ضئيل، لكن ما لا يمكن تفهمه هو الكيفية التي تجعل الناس يؤدون فاتورة القيام بشيء لم يكن لديهم فيه دور.

لم تخضع هذه الصفقات لمراقبة دقيقة في نهاية المطاف، ولسوف تظهر عيوب في كثير من تلك المقتنيات، ولا محالة ستظهر أخرى في عمليات أخرى. بات التنبيه إلى نقص الشفافية في هذه العمليات عملا «غير وطني»، ويميل مقدمو البرامج إلى تجاهله باستمرار. النزاهة ليست معيارا في تعيين المسؤولين، لكن إقرار آليات فعالة للمراقبة سيضيق من هامش أي مناورة فاسدة. لقد سمح رئيس الحكومة للمسؤولين بأن يفعلوا ما يشاؤون. ولسوف يفعلون ذلك. ودون شك، كان لافتضاح أمر تقنية للتنفس الاصطناعي حولها وزير إلى رأسمال شخصي، أن يتحول إلى مشكلة كبيرة بالنسبة إليه في بادئ الأمر. لم يحدث ذلك بالطبع. لقد فتر الاهتمام سريعا بتلك القضية لأن شيئا ما حدث وغير مسار الانتباه العام. ماذا وقع؟ لا شيء في الواقع، لقد اكتشف جيش الخبراء أن أفضل ما يؤثر في مزاج الناس في أوقات الأزمات، هو أن تشير إلى أشخاص ما على أنهم خائنون. ولسوف يفعلون ذلك في قضية المسؤولين الذين يملكون جنسية مزدوجة. كانت مناقشات زائفة، لكنها محت أي مناقشة حول الطريقة المثيرة للاشمئزاز لمحاولة وضع جهاز تنفس اصطناعي رديء على رئات المرضى.

هل أخفقت وزارة الصحة في إدارة أزمة كوفيد-19؟ لا شك في ذلك، لكنها، في نهاية المطاف، ليست وحدها من تتحمل الوزر. تتحول الجائحة بشكل تدريجي إلى عمل سياسي مدروس ومخطط له. في جماعة المحمدية، على سبيل المثال، خصص مجلسها حوالي 3 ملايين درهم لشراء الأجهزة اللوحية لفائدة التلاميذ المعوزين. رفضت السلطات المحلية ذلك بشدة. قال عامل العمالة بكل صلافة في اجتماع: «في الجائحة، سنحتاج منكم إلى مواد التعقيم فقط.. لا حواسيب لأي تلاميذ في هذا الزمن». تقوت سلطة هؤلاء الرجال المعينين وكأن الجائحة هبة من السماء. عززت وزارة الداخلية من تفوقها في الإدارة، وحطمت صلاحيات الجماعات بشكل كامل. بات ممنوعا على الجماعات تبليط شارع، أو إصلاح مصباح عمومي محطم. بدلا عن ذلك، يحق للولاة وللعمال أن يتصرفوا كما يشاؤون. أولئك الذين يكرهون نتائج الانتخابات، عادة ما يكونون في مقدمة الذين يصفقون على هذه الأعمال. ومن المؤكد أن لا أحد سوف يصفق على وزير الصحة. من شأن الأزمات أن تكشف معدن المسؤولين العموميين، وهي، كذلك، تكشف ضعف كفاءتهم. حتى الآن، لا يمكن، دون دليل قاطع، أن يُتهم أي وزير بإهدار أموال عامة في برامج غير ذات فائدة. لكن على الناس أن يفهموا أن أي محاسبة فعالة قد تكون بعيدة المنال. لدى الناس، حتى العاديين منهم، صورة تقريبية عن الطريقة التي تسير بها الأمور، ومن المؤكد أنهم يفهمون الإمكانات المحدودة لوزير هامشي في الحركة، في الوقت الذي تتخذ فيه إدارة الأزمة لنفسها طابعا أمنيا.

حتى ذلك الوقت، أي عندما تصبح المحاسبة أولوية تسبق التصفيق على «الأبطال» المخدوعين بالحيل الحذقة كما يصوغها جيش من الخبراء في التواصل، فإن قائمة الموتى ستكبر أكثر فأكثر. دون أسماء، ودون صور، وعلى الناس أن يعتادوا معاملتهم مثل أشياء سقطت عرضا.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي